في الصّيف ضيّعنا اللّبن!
“في الصّيف ضيّعتِ اللّبن”، مثل عربي مشهور يُضرب لمن يضيّع الفرصة ويفوت الغنيمة، وقصّته أنّ امرأة تُدعى دَخْتَنُوس بنت لقيط بن زرارة، كانت زوجة لأبي شريح عمرو بن عُدَاس، وكانت ذات جمال وبهاء ودهاء، وكان زوجها الثريّ يكرمها ويجلّها ويغدق عليها من كلّ ما تشتهيه، لكنّها وبعدما أسنّ وأصبح عجوزاً، كرهت عشرته، وصارت تقارن حالها بحال صديقاتها اللائي تزوّجن بفتيانٍ يقاربونهنّ في العمر، وتأسَفُ لشبابها الذي ينفلتُ منها في ظلّ شيخٍ مسنِّ، فلم تزل تؤذيه وتُسمعه ما يكره وتهجره، حتى طلّقها في الصّيف، ثمّ تزوجت بعده شابًّا جميل المُحيّى هو عُمير بن مَعبد من آلِ زُرارة، لكنّه لم يكن كزوجها السابق في الشجاعة والثّراء والمروءة وكريم الخصال، وذات عام أجدبت الأرض، وكان الوقتُ صيفاً قائظاً، فمرّت إبل عمرو بن عدس (زوجها الأوّل) عليها كأنّها الليل من كثرتها، فقالت دختنوس لخادمتها: انطلقي إلى صاحب هذه الإبل فقولي له فليسقنا من اللّبن، فأتت الخادمة وقالت له: إنّ بنت عمك دختنوس تقول لك اسقِنا من لبنك، فقال لها عمرو: قولي لها “في الصّيف ضيّعْتِ اللّبن يا دختنوس”.
هذا المثل ربّما يصلح أن يساق لوصف حالنا نحن الجزائريين الذين رضي بعضنا بأن يضيّعوا رصيد رمضان من الطّاعات والقربات، في متابعة فعاليات المهرجانات الغنائية التي تنطلق أياما قليلة بعد رحيل شهر النّفحات؛ فلا تكد تمضي أيامٌ قلبلة على رحيل رمضان حتى تنطلق فعاليات طبعات جديدة ومزيدة! من مهرجانات الغناء والرّقص هنا وهناك، إذ تمتلئ المدرّجات بالرجال والنساء والعائلات التي ترتضي أن تبذل الأموال الطائلة لحضور سهرات غنائية تحوم كلماتها حول “الحبّ” و”الغرام” وتدعو إلى كسر حواجز الحياء، يؤدّيها مغنّون يتقاضون أجورا خيالية، لقاء سويعات قليلة من الغناء والرّقص والتّمايل والهتاف!
إنّه لا عجب في أن تنطلق المهرجانات والسّهرات ويُدعى المغنّون والفنّانون لإحياء السّهرات، وتنطلق معها حفلات الأعراس الصّاخبة، في أيام تُعدّ حاسمة بالنّسبة لمردة الجنّ الذين تفكّ أغلالهم بعد رمضان، ليبذلوا قصارى جهودهم لتعويض ما فاتهم في شهر التّوبة والغفران، ويحاولوا ثني التائبين عن توبتهم، وإلهاء الطّائعين عن طاعاتهم، تحدوهم في ذلك بعض وسائل الإعلام التي تطوّعت لتنقل أخبار وفعاليات المهرجانات الغنائية؛ إنّه لا عجب في كلّ هذا، لكنّ العجب في أن نقع لقمة سائغة سهلة لمردة الجنّ ومتمرّدي الإنس أياما قليلة بعد رحيل شهرٍ أعلنّا فيه التّوبة والأوبة، وأحيينا أيامه بالصيام ولياليه بالقيام وختمناه بالدّعاء أن يثبّت الله أقدامنا على الطّاعة والاستقامة؛ العجب العجاب هو أن تنسل بعض العائلات الجزائرية –طوعا- من كلّ حدب وصوب ويقطع بعضها مئات الكيلومترات ويبذل أربابها الأموال الطّائلة لحضور فعاليات هذه المهرجانات، وتحدّثنا الصّحف بعد ذلك عن الأعداد الهائلة من الأُسَر التي تملأ الكراسي والمدرّجات وتتمايل طربا على وقع الوصلات والأغنيات التي يؤدّيها الفنّانون والفنّانات!