في المدينة: من قبر الرسول إلى سقيفة بني ساعدة
في منى التقيت بمجموعة من الوزراء الذين جاؤوا البقاع المقدسة “ليغسلوا عظامهم المدنسة” من أدران السياسة ومفاسد السلطة وغواية المال! غادرت منى، إذ لم أستطع انتظار الحافلة الجماعية من كثرة الزحام، طلبت سيارة أجرة وعدت إلى غرفتي في الفندق بمكة التي لا تبعد إلا بعض كيلومترات، تمددت على السرير وأضفت في كراستي مجموعة من الملاحظات عن أحوال وطبائع وعادات الحجاج في رمي الجمرات.
- وفي اليوم التالي رفقة لحيلح وبوعقبة ودليلة حليلو وقاسي تيزي وزو وأدينا طواف الوداع، لأنني قررت الذهاب لزيارة المدينة المنورة. كما كان علي أن أدخل سوق مكة المقابل للحرم المكي لشراء بعض الهدايا لزوجتي وأطفالي ولبعض الأصدقاء أيضا، وسوق مكة هذا لا يختلف عن المساحات الكبرى التجارية في البلدان الغربية، كان الباعة أغلبهم من اللبنانيين والسوريين واليمنيين والمصريين، والأسعار غير محددة فما عليك إلا أن تفاضل أو تستعين بمن يعرف “ثقافة” الشطارة التجارية، وقد وجدت لي في الصديقة المسرحية دليلة حليلو بعضا من ذلك، فساعدتني على مواجهة هؤلاء التجار الذين يملكون فراسة التمييز بين فرائسهم من الزبائن من خلال لهجاتهم ولكل لهجة سعرها وطريقة التعامل مع متكلمها. كنت والشاعر عز الدين ميهوبي مدعوين لحضور مراسيم افتتاح مكتبة البابطين المركزية للشعر العربي بمدينة الكويت وهي أول مكتبة متخصصة في الشعر العربي، وقد أنشأها الشاعر عبد العزيز سعود البابطين، وقد وافق تاريخ الافتتاح نهاية موسم الحج، وفي الوقت الذي بدأ عز الدين ميهوبي يقوم بإجراءات تغيير تاريخ عودته حتى يلتحق بموعد افتتاح المكتبة، عزمت على الذهاب إلى زيارة المدينة المنورة بدلا من العودة إلى الجزائر للذهاب من هناك إلى الكويت لحضور تدشين المكتبة، وإذا بخبر موت أمير الكويت الشيخ صباح الأحمد الجابر الصباح يصلنا ونحن لا نزال بمكة، وهو ما جعل المشرفين على المكتبة يقومون بتأجيل موعد افتتاحها، وهو بالفعل ما سمح لي حضور هذا الموعد الثقافي لاحقا.
- في اليوم التالي ركبنا سيارة 4 X 4 وانطلقنا في اتجاه المدينة المنورة، وفي طريقنا اقترح علينا المرافق أن نعرج على زيارة غار ثور الذي اختفى فيه الرسول (ص) وصاحبه أبو بكر، سارت بنا السيارة في أحراش غير منيعة، وحين اقتربنا من المكان المقصود نزلنا، وواصلنا السير على الأقدام. هجم علينا مجموعة من الأطفال بإلحاح يطلبون الصدقة: “دولار يا حاج، دولار”، طاردهم بعض الكبار ونهرهم السائق. لم نمنحهم شيئا لكنهم، هم، “منحونا”! لحظة مغادرة المكان وابلا من الحجر نزل بعضه على سطح السيارة. غار ثور هو مكان بسيط يكاد لا يميز، ولم يعط حقه من الترميز التاريخي. كان المكان أصغر بكثير مما هو عليه في ذاكرتنا التي طبعتها تفاصيل التاريخ، حيث يتقاطع الحقيقي بالأسطوري بالديني. دخلت الغار وتأملت جوانبه وبدأت أحاول تصور صورة الرسول (ص) وهو في هذا المكان، كيف كانت هيأته وحاله وشكله وهو يختبئ في هذا المكان لمدة ثلاثة أيام، قبل أن يواصل وصاحبه طريقهما إلى المدينة.
- وظلت صورة النبي (ص) تلاحقني حتى دخلنا المدينة المنورة التي تبعد عن مكة قرابة 500 كيلومتر. وأنت تقطع شوارعها المنظمة وتسير بين بناياتها الرقيقية تلقاك المدينة بفرح وانفراج. وفي اليوم التالي مشيت طويلا راجلا في شوارعها وتحدثت إلى بعض أهلها من المثقفين والبسطاء من العامة، وجلست في مطاعمها فشعرت بأنني في مدينة حديثة ونظيفة مؤسسة على حس حضاري عال. وشعرت بالاختلاف بين طبائع أهل المدينة وطبائع أهل مكة.
- أول ما قمت به صحبة مرافقنا من وزارة الشؤون الدينية والأوقاف هو زيارة المسجد النبوي، إنه تحفة! اندهشت لجمال عمارته، وحين جلست في صحنه وتأملت هندسته وكساءه وثرياته المصنوعة من البلور والذهب، ذكرني، لست أدري لماذا، بقصر الحمراء بالأندلس، ففي هذا المسجد، الذي بني كما تروي الأخبار في المكان الذي بركت فيه ناقته (ص)، حس فني وجمالي استثنائي. شعرت بأن ساكنة المدينة على حس راق وعريق. وقلت في نفسي: ربما لهذا اختار الرسول الهجرة إلى هذه المدينة وفيها اختار أيضا أن يموت ويدفن.
- حين وقفت أمام شباك قبر الرسول (ص) بالروضة الشريفة، سكنني شعور غريب فقلت: هذا الراقد في هذا المكان البسيط، في كل هذا التواضع المثالي والسكينة العظمى استطاع أن يحرك الدنيا من شرقها إلى غربها، ولا يزال شاغل الناس من كل اللغات والقوميات والجغرافيات. ثم وقفت أمام قبري صاحبيه أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب. ثم زرت مقبرة البقيع حيث قبور أبنائه إبراهيم ورقية وفاطمة وزوجاته وكثير من الصحابة، ثم زرت سقيفة بني ساعدة التي فيها تقررت ولاية وبيعة أبي بكر الصديق ومن تلك اللحظة بدأ الإسلام السياسي، وبدأ الصراع على السلطة في تاريخ الدولة الإسلامية الناشئة.
- وكان ثاني مكان طلبت زيارته هو “مسجد القبلتين” أو مسجد “بني سلمة”، حيث يروى أن الرسول (ص) أدى وصحبه فيه أول صلاة بقبلتين، كانت صلاة الظهر، كما يروى، فصلوا الركعتين الأوليتين ميممين فيها الأقصى بالقدس قبلة، أول القبلتين، ثم أكملوا الركعتين التاليتين ميممين الكعبة المشرفة بمكة ( ثاني القبلتين)، وبهذا المسجد ومن ذاك الزمن تغيرت قبلة المسلمين، دخلنا المسجد، وأشار لنا القيم عليه إلى المكان الذي يعتقد أن الرسول ومن معه صلوا فيه في اتجاه الأقصى ثم غُير في الاتجاه الآخر.
- أُحُدْ: إنه جبل يحبنا ونحبه
- كنت أظن دائما أن جبل أُحُدْ والذي وقعت فيه وعليه معركة أحُدْ الكبرى والمصيرية، هوجبل عال، ولست أدري لماذا ترتبط في ذاكرتي صورة هذا الجبل في علوه مقرونة بصورة جبل زندل ( بمنطقة مسيردة بتلمسان) ذاك الذي ترعرعت عند قدمه، لست أدري لماذا ارتبطت صورة هذا بذاك في ذاكرتي منذ الصغر، مذ بدأت قراءة القصص الدينية وكتب السير. وحين وصلت المكان وأنا أحمل كثيرا من الكتب في رأسي التي كتبت عن الجبل وعن معركة أحد وبعض مشاهد الأفلام والمسلسلات الدينية والتاريخية. أصبت بنوع من الخيبة، كنت وأنا أقف على هذا المكان التاريخي الكبير الذي لا يعدو أن يكون ربوة صغيرة، فأشعر بأن هذه الربوة صغيرة جدا لا تتسع لما امتلأ به رأسي منذ ثلاثين سنة من القراءات والشفهيات والصور. من على هذه الربوة البسيطة والتي كانت قبل وصولي إليها كبيرة حجما ها أنذا أستعيد صورة حمزة عم الرسول والسيدة هند تقابله في شراستها آمرة عبدها أن يبقر بطنه ويخرج لها الكبد نيئا كي تأكله. هذا المكان الذي عبرت رمزيته القرون وشقت الجغرافيات واللغات، ها هو يبدو ساكنا هادئا مع هذا الغروب، لا يقطع سكونه سوى بعض الباعة بسطت عليها بعض أعواد الطيب والمسبحات الشعبية صينية الصنع وعلب الحناء الهندية والسواك. تسوَقنا من عند هؤلاء الباعة ليس رغبة في سلعهم إنما ذكرى نحملها من هذا المكان التاريخي. وقبل أن نركب السيارة للعودة إلى فندقنا بالمدينة، التقطت من هذا المكان بعض حصى وحفنة تراب كذكرى لي ولبعض الأصدقاء. والتقطنا صورا كثيرة أيضا.
- قضينا ثلاثة أيام في المدينة ثم قفلنا راجعين إلى جدة والتي منها سيكون إقلاع رحلة العودة إلى الجزائر.
- انتهى القسم الأول