الرأي

في باتنة

كتب الدكتور أبو القاسم سعد الله – رحمه الله – مقالا عن الأوراس الأشم جاء فيه: “إذا وسوس لك الشيطان أو اعتراك النسيان، فاذهب إلى الأوراس لتتطهر من ذنوبك، وتنعش ذاكرتك، ولتعلم أنك ماتزال في بلاد الثورة التي حطمت أصنام الاستعمار، وأنك في موطن الإسلام، الذي جر “أذياله تيها على الأديان، وأنك في حصن العروبة الذي يتفاخر به عدنان وقحطان”. (في الجدل الثقافي. ص 53).
وهذا ما أحسست به بمجرد أن حطت بنا الطائرة في مطار المجاهد الشهيد الرمز سي مصطفى ابن بولعيد، الذي أكرمه الله – عزوجل- بالجهاد ثم بالشهادة، ثم حفظه فلم تتلطخ يده بدم بريء، ولم تتسخ ذمته بمال حرام، بل كان – كما شهد عارفوه- كـ”الأنصار”، حيث آثر حظ الجزائر على حظ نفسه، وحظ أقربيه من زوج وولد. فله جزاء الحسنى وزيادة يوم يعض الذين “خانوا” أمانة الجهاد والشهادة، وخاضوا ولعبوا، ويقولون يوم يرون ما أنذروا منه: “أبصرنا وسمعنا، ربنا فأرجعنا نعمل صالحا إنا موقفون”، فيأتيهم الجواب: “اخسأوا فيها ولا تكلمون”.
أما سبب ذهابي إلى باتنة فهو تلبية لدعوة كريمة من إخوة كرام، أكثروا من الإلحاح عليّ حتى استحييت، وقد علمنا الإسلام الحنيف أنه “إذا دعاك أخوك فأجب” قدر الاستطاعة. وكان الداعون هم أعضاء “جمعية باب الخير”، ندعو الله – البر الرحيم- أن يفتح لهم أبواب الخير، لا بابا واحدا..
ما أكثر الذين يزعمون أنهم مؤمنون، وما يؤمن أكثرهم إلا وهم مشركون، وما أكثر الذين يدّعون أنهم يعرفون الخير وهم أجهل الناس به، وإن عرفوه فما أقل ما يفعلونه أو يحضون غيرهم عليه أو يدلّونهم إليه..
من الذين عرفوا الخير، فعملوه، ودعوا إليه، ودلّوا عليه، وحضوا على فعله جمعية “صغيرة” في حجمها، كبيرة في أثرها، وهي “جمعية باب الخير” التي تنشط في بلدية باتنة.
كثيرا ما قلت إن فعل الخير كفعل النحو، فإذا كان في فعل النحو لازم ومتعد إلى مفعول ومفعولين وثلاثة مفاعيل، فإن فعل الخير ما يقتصر على فاعله كالصلاة والصوم والحج، وما يتجاوز فاعله كهذا الذي يفعله الإخوة في هذه الجمعيات الخيّرة التي تدعو إلى الخير وتفعله، ومنها هذه الجمعية التي وفق الله – عز وجل- أعضاءها للخير، وأطلقت على نفسها اسم “باب الخير”.
ابتدأت رحلتي بتعكير صفوي، وتوتير أعصابي مما فعلته – وتفعله – زبانية هذه الشركة المسماة “الخطوط الجوية الجزائرية”، التي أضفت بسببها شرطا من أشراط الساعة، وهو “التزامها” بالمواعيد. وقد قلت لبعض الإخوة ممازحا- إن سافرتم مع هذه “الشركة” في الزمن الموقوت، فسارعوا إلى إعلان “الشهادتين” خشية وقوع الصّاخة الكبرى، فتكونوا قد حققتم ما جاء في القرآن الكريم “فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون”.
وقد تزامن وصولي إلى مدينة باتنة مع ذكرى استشهاد المجاهد سي مصطفى ابن بوالعيد، فأشيد بدوره وإخلاصه، وهم بالإضافة إلى سي مصطفى الشهيدان مراد ديدوش ومحمد العربي ابن مهيدي.. فذهبوا إلى الله – عز وجل- من غير أن يصيبهم ما أصاب غيرهم من أوشاب. فرحمة الله عليهم وعلى جميع الشهداء..
توجهنا من المطار مباشر إلى مسجد خالد بن الوليد، فوصلناه بعيد صلاة المغرب، وكان الإخوة قد برمجوا لي بالتعاون مع مديرية الشؤون الدينية والأوقاف – كلمة بين العشاءين، فاستمددت الإعانة والتوفيق من الله – المعين والموفق- وتناولت بعض معاني حديث البشير بكل خير، والنذير من كل شر، وهو: “المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا”.
وقد ركزت على نعمة الله العظمى التي منّ بها على الجزائر، إذا أخرج منها المليون فرنسي الذين كانوا يتنعمون فيها، ولو بقوا لصاروا الآن بضعة ملايين وفي أيديهم 90% من اقتصاد الجزائر، وفيهم العلم والاتحاد، وفي بعضنا “القابلية” لخدمتهم، وخيانة وطنهم، وإذن لبقينا “خمامسة”. ومن نعم الله على الجزائريين أيضا أن أكثريتهم الكاثرة مسلمون.. ولنحذر هؤلاء “الجزائريين” الذين يزعمون أن التعدد “الديني” ثراء. فما هو إلا تمزيق لهذه الوحدة الربانية التي أكرمنا الله – عز وجل – بها..
ومما تفعله بعض الجمعيات المفرّقة بين الإخوة استغلال ظروف بعضنا للظهور بمظهر “إنساني”، فتقدم بعض المساعدات لتستبدلنا “الفادي بالهادي”.
ومن الغد توجهنا إلى المسجد الذي زاد باتنة والجزائر كلها شرفا على شرف، وهو مسجد أول نوفمبر، فترحمنا على المجاهد الحاج لخضر الذي علم الله في قلبه خيرا فوفقه إلى السعي لإنجاز هذا المعلم العظيم في بقعة كانت تزرع الموت والخراب، حيث كانت مطارا تنطلق منها طائرات العدو الفرنسي، لتمطر الإنسان والحيوان والعمران – مهما يكن بسيطا- بجميع أنواع القنابل، المزهقة للأرواح، المتلفة للأرزاق، المحرقة للأشجار.
وقد شرّفت بإلقاء درس الجمعة في ذلك المسجد، وكان موضوعه “الإيمان والحب”، انطلاقا من حديث من لا ينطق عن الهوى القائل: “لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنون حتى تحابوا. أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم، أفشوا السلام بينكم”..
ووفق الله – عز وجل- فركزت على ما نحن – والإنسانية كلها- في حاجة إليه، وهو هذا الثلاثي الذي يجعل الحياة على الأرض “جنة صغرى”، وهو “الإيمان، والحب، والسلام”.
وبين العشاءين من اليوم نفسه نظم الإخوة نشاطا آخر في مسجد عمار بن ياسر فتحدثت فيه عما ينجح الأعمال في جميع الأحوال، وهما “الأخلاق والعلم” انطلاقا مما جاء في القرآن الكريم على لسان سيدنا يوسف – عليه السلام – مخاطبا ملك مصر، وهو “أجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم”. وركزت على أن أي عامل وفي أي مستوى إما أن يكون عاملا عالما بلا أخلاق فيفسد بالسرقة والغش والرشوة وإما أن يكون عاملا متخلقا بلا علم فيفسد من حيث يظن أنه يحسن صنعا.. ولا نجاح إلا بالأخلاق والعلم..
ومن الغد – السبت 24-3– برمج لي الإخوة محاضرة في المركب الرياضي بحي كشيدة لقاء، فكان الحديث عن جمعية العلماء المسلمين الجزائريين “أم الجمعيات” الخيّرة في الجزائر، وجمعية باب الخير وما قامت به جمعية العلماء قديما وحديثا، وما تقوم به جمعية باب الخير..
أشكر جزيل الشكر الإخوة في باتنة الذين دعوني، ففتحوا لي “بابا للخير”، والذين استضافوني وأكرموني، فجزاؤهم عند الله، وقد برهنوا بكرمهم على إيمانهم، حيث يقول سيدنا “صلى الله عليه وسلم-: “من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه”. وإذا كان الإخوة قد اعتذروا عما اعتبروه “تقصيرا” فقد كنت أقول لهم: “إن ما نطعمه، وما نشربه، وما نلبسه، وما نركبه، وما نسكنه – مهما يكن بسيطا- لم يطعمه ولم يشربه ولم يلبسه، ولم يركبه، ولم يسكنه رسول الله – صلى الله عليه وسلم- وهو أشرف مخلوق، وأفضل مرزوق.
وليسمح لي الإخوة إذ لم أذكر أسماءهم، فهم كما قال السلطان يغمراسن الزياني الذي قيل له: اكتب اسمه على صومعة الجامع الكبير بتلمسان ليعرف الناس أنها من صنعك، فقال لهم باللسان الأمازيغي الزناتي “يسنث ربي”، أو كمال قال. “أي “يعرف الله ذلك”.

مقالات ذات صلة