-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

في مواجهة الرأي العام

عيسى جرادي
  • 317
  • 0
في مواجهة الرأي العام

تتحرك المدرسة عبر مسارين متلازمين،  فهي تمنح المجتمعَ مواطنا نموذجيا وتوفر للدولة كفاءة متميزة، وهي بهذا الدور المزدوج  مرتهنة لكليهما، ولا يمكنها بأي حال أن تنفك عنهما، فلا غرابة أن يمارس المجتمع تأثيره عليها، وليس للدولة أن تستقل منفردة بتقرير مصير هذه المدرسة، فما هي المقاربة التي حاولت بها  الوثائق المنظمة لغايات الإصلاح الجديد تعريف هذا المواطن خريج هذه العام؟

حدّدت الرسالة التي تضمنت تحديد مَهمّة اللجنة الهدفَ المتوخى من هذا الإصلاح البيداغوجي في (تكوين المواطن قصد تلقينه علما، ومهارة، ومنهاجا سلوكيا، وآداب التعايش مع الغير).. وعلى مستوى القيم والمبادئ تبرز مفاهيم (المواطنة، المساواة، والتسامح، والسِّلم، والديمقراطية، وحب الوطن، والتفتح على العالم) التي ستغذي معتقد المواطن- التلميذ وتضبط سلوكه، حين ينخرط في الحياة العامة.

في البُعد النظري، تبدو هذه المفاهيم والأهداف أشياء جميلة في ذاتها، لأنها ستساعد على بناء مواطن متّزن، يملك مهارة، محبًّا للقيم الإنسانية، قادرا على استيعاب معطيات هذا العصر، لكن ماذا عن الإطار الذي يتم فيه تسويق هذه القيم؟ ما هو محتواها وتعريفها،  ففلسفة التربية لا تنفكّ عن فلسفة المجتمع،  ومن المنطقي ألا تتعارض معها، بل من الواجب أن تتسق معها تماما؟

في سياق حملة وطنية، برزت جهود شخصيات وطنية وحزبية نادت بدورها بكبح أي محاولة تغريبية للمدرسة، ومن ذلك موقف وزير الشؤون الدينية الأسبق المرحوم عبد الرحمن شيبان، رئيس جمعية العلماء المسلمين لاحقا،  الذي قال (لقد أنجبت اللجنة بعد مخاض عسير تقريرا غريبا عن الجزائر).. وبالمثل أصر وزير التربية الأسبق علي بن محمد على (أن هناك إصرارًا على تدمير الهوية الوطنية من طرف أبناء الوطن).

لمسنا بمجرد الإعلان عن اللجنة الوطنية لإصلاح المنظومة التربوية، ولاحقا بعد الإفصاح عن تقريرها النهائي، كيف تفاعل المجتمع –عبر قواه المؤثّرة– مع مخرجات هذه اللجنة، وتجلَّى ذلك واضحا من خلال المواقف المعلنة عنها خاصة في الوسط التربوي ومن ثم المدني والإعلامي كذلك،  وسيسمح رصدُ تلك الردود وقراءتُها بموضوعية، بإجراء تقييم موضوعي لأعمالها،  ومن خلال وجودي في اللجنة، أمكنني تسجيل جملة متابعات وأحكام، عكست إلى حد ما نظرة الرأي العامّ وموقفه من هذه الإصلاحات:

1– بعض الأحكام الصادرة في حق اللجنة،  والمتّسمة بالتعميم خاصة، كالقول مثلا “إن كل أعضائها متآمرون على المدرسة”، تبدو متعسِّفة وتفتقر إلى المصداقية، وقد بلغ الأمر ببعض الناس حدّ المطالبة بمحاكمة أعضاء اللجنة بتهمة التآمر على الهوية الوطنية.

وإذا كان صحيحا أن أكثر أعضائها هم ممن لا يؤمنون بالمدرسة التي أقامتها أمرية 1976، فيبقى للُّجنة جانبُها الوطني، فهي – ولو نظريا وفي نطاق النصوص التي تضبط عملها– موجَّهة  للإصلاح وليس للهدم، والنية –الرسمية على الأقل– منعقدة على محاولة تطوير المدرسة وليس العكس، وإن تباينت وجهات النظر إزاء الكيفية التي يتم بها هذا التطوير، كما لمسنا ذلك من خلال الملاحظات التي ثنى بها رئيس الجمهورية السابق خارج خطابه المكتوب، وأشار فيها صراحة إلى ما يمكن أن يعتبر مدرسة موازية، وهذا في حد ذاته إقرارٌ بوجود شرخ غير معلن يجب علاجه.

2– انخراط الصحافة الوطنية بمعسكريها في السجال القائم بشأن اللجنة وأعمالها، أفرز تباينا في تقييم أعمالها، بين صحافة تحاول إبراز موقف التيار المناهض للمدرسة القائمة،  وتبرير جهوده في محاولة رسم مسار جديد يسمح بانفتاح للمدرسة الجزائري على العالم بثقافته وتقنيته ومعارفه، حتى وجدنا في هذا السياق من سبح في موجة اتهام المدرسة بإنتاج الإرهاب وتكريس الأصولية والتخلف –بهذه العبارات والمصطلحات التي أشرتُ إلى بعضها في مقالات سابقة-  ليطالب بهدم كل ما هو قائم باعتباره فاشلا وسيئا، وإعلاء صرح مدرسة جديدة على أنقاضها، وصحافة سعت عناوينها في إذكاء زخم المطالبة بمقاومة تقرير اللجنة ورفضه جملة وتفصيلا، وفسحت عبر فضائها للمواقف المشكِّكة في مصداقية اللجنة،   أن تكشف عما تراه تجاوزات اللجنة وسعيها في تغريب المدرسة، والتآمر على الهوية الوطنية والأمة الجزائرية.

3–  تجلت فعاليات المجتمع المدني: أحزاب سياسية، شخصيات وطنية، برلمانيون، منظمات، نقابات، جمعيات وطنية، في محاولة بناء جدار صدٍّ، تسعى من خلاله لإبطال القرارات “الاستعجالية” التي تبنَّتها اللجنة،  وتعطيل العمل بمحتوى التقرير النهائي،   فأعلنت “التنسيقية الوطنية لدعم المدرسة الجزائرية الأصيلة والمتفتِّحة”، التي بادر بها منتمون إلى قطاع التربية بصفة خاصة.

وفي سياق حملة وطنية، برزت جهود شخصيات وطنية وحزبية نادت بدورها بكبح أي محاولة تغريبية للمدرسة، ومن ذلك موقف وزير الشؤون الدينية الأسبق المرحوم عبد الرحمن شيبان، رئيس جمعية العلماء المسلمين لاحقا،  الذي قال (لقد أنجبت اللجنة بعد مخاض عسير تقريرا غريبا عن الجزائر).. وبالمثل أصر وزير التربية الأسبق علي بن محمد على (أن هناك إصرارًا على تدمير الهوية الوطنية من طرف أبناء الوطن)، كما أشار الأمين العام الأسبق لجبهة التحرير الوطني عبد الحميد مهري (إلى أن القراءة العابرة للتقرير تفسَّر على أنه تم تناول اللغات الأجنبية تناولا سياسيا بعيدا عن المجال البيداغوجي).

4– على مستوى قطاع التربية ذاته، بدا الهاجس أشد وطأة، إذ أبدى القائمون على القطاع توجُّسهم من الطريقة التي تطبَّق بها الإصلاحات، والتي تتَّسم في شق منها بالاستعجال، كأن شيئا ما يراد تجسيده تفاديا للاعتراض أو التعطيل، وفي مضمونها أيضا الذي انتهى إلى شكل من أشكال علمنة المدرسة، فولدت تنسيقية أساتذة العلوم الإسلامية، كما تم التشكيك في نيَّات من أعدّوا التقرير الذي تضمَّن توجُّهات تبتعد كثيرا عن مقوِّمات الأمة، كما أبدوا تخوّفهم من إقرار “المدرسة الخاصة” التي يتعذر التحكم فيها أو مراقبتها.. والتي ستتحول تدريجيا إلى مؤسسة خاصة بأبناء علّية القوم، ما يعني ميلاد طبقية تربوية تكون لها امتداداتها إلى باقي القطاعات.

وتأسيسا على هذه المواقف التي تطورت لاحقا إلى شكل من أشكال المواجهة بين نقيضين، لا نزال إلى اليوم نشهد تجاذبا بين طرفين، يسعى كل واحد منهما إلى إقرار إرادته، بين من يراها مدرسة جزائرية الروح والجسد وضعت معالمَها الكبرى أمريةُ 1976.. ومن يريدها نسخة غير مكيَّفة -بأبسط تقدير– لنموذج مدرسة غربية الروح وإن تقمَّصت بعض المظاهر الشكلية لما يمكن أن يعدَّ ثقافة وطنية.

للمقالة مراجع.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!