-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

قبيلةُ جزائريةٌ أنقذت عبد الرحمن الدّاخل!

بقلم: د. أمين كرطالي
  • 1366
  • 1
قبيلةُ جزائريةٌ أنقذت عبد الرحمن الدّاخل!

كثيرةٌ هي القبائل الجزائرية التي كان لها حضُور حافلٌ في صفحات التّاريخ، فساهمت في تغيير مجرى الحوادث، وتركت بصمتها بارزةً في كُتبه ورواياته. وللأسف فإنَّ ثقافتنا كجزائريين بهذه القبائل ومجالاتها وأخبارها تبقى ضئيلةً جدّا.

من منّا كان يعرف أنّ قبيلةً جزائريّة تُسمّى قبيلة مغيلة، لعبت دورا كبيرا في تاريخ الغرب الإسلامي، وكانت تُشرفُ على الساحل المسمّى اليوم “المرسى الصغير” المتواجد بدائرة المرسى شمال ولاية الشلف، هي التي آوت عبد الرّحمن الدّاخل، قبل أن يتّخذ أحد سواحلها معبرا له نحو الأندلس؟

صحيحٌ أنّ الكثير منّا قد سمع عن عبد الرحمن بن معاوية الدّاخل، ذلك الشابُّ الأمويُّ الفارّ من بطش بني العبّاس، واللّائذُ ببلاد المغرب الإسلامي، وفي سيناريو دراماتيكيّ، ساقته تلك الظروف المأساوية المليئة بالحزن والخوف والقلق  نحو مجدٍ عظيم عانقهُ بجزيرة الأندلس، حيثُ أرسى هذا الشابُّ بكلّ ذكاء وقوّة وصرامة قواعدَ دولةٍ قويّة، وشاد سلطانا عظيما، فسطعت على إثره حضارةُ الأندلس، وأنارت العالم بضيائها الخلّاب.

لعلّ أكثرنا شاهد مسلسل “صقر قريش”، والذي نقرُّ بأنّه من الأعمال السينمائيّة الخالدة، والتي تستقي أصولها من الرواية التاريخيّة مع خيالٍ يتوافق إلى حدٍّ كبير مع الرؤية التاريخية لواقع الغرب الإسلامي خلال تلك الفترة. لكن ومع ذلك فلن تجدَ أيّ إشارة إلى قبيلة مغيلة الجزائرية التي استقبلت عبد الرحمن بن معاوية وأكرمت وفادته!

بينما هذه المعلومة ستجدُها بكلّ وضوح عند قراءتك لتاريخ ابن خلدون، وفي ثنايا كتاب “نفح الطيب” للمقري، وفي طيّات كتاب “أخبار مجموعة”.

يحسنُ التنبيه إلى أنّه في الفترة الوسيطة كانت المنطقة المعروفة اليوم بـ”دائرة المرسى” شمال ولاية الشلف جزءا من بلاد مغيلة. ومغيلة هي قبيلة بربرية عريقة، ويحدّد ابنُ خلدون أرض قبيلة مغيلة بأنّها تمتدُّ من ضواحي مازونة إلى الساحل الواقع بين مستغانم والشلف، فابن خلدون عند حديثه عن قبيلة (مغيلة) قال: “وكان منهم جمهوران –أي مغيلة- أحدهما بالمغرب الأوسط (الجزائر) عند مصب الشلف في البحر من ضواحي مازونة… ومن ساحلهم أجاز عبد الرحمن الداخل إلى الأندلس ونزل بالمنكب”.

من منّا كان يعرف أنّ قبيلةً جزائريّة تُسمّى قبيلة مغيلة، لعبت دورا كبيرا في تاريخ الغرب الإسلامي، وكانت تُشرفُ على الساحل المسمّى اليوم “المرسى الصغير” المتواجد بدائرة المرسى شمال ولاية الشلف، هي التي آوت عبد الرّحمن الدّاخل، قبل أن يتّخذ أحد سواحلها معبرا له نحو الأندلس؟

إنّ هذه الرواية الصريحة التي تغافل عنها الكثيرون، تبيّنُ لنا الطَّريق الذي سلكه عبد الرحمن الداخل، فبعد أن نزل بجوار قبيلة نفزة البربرية بأرضِ والدته التي تُسمّيها كُتب التّاريخ “راح” أو التي تنحدرُ من بلاد طرابلس في ليبيا، سُرعان ما غادر هذا المكان، وفرّ إلى أرض مغيلة بالمغرب الأوسط، وذلك بسبب خوفه من  صاحب إفريقية عبد الرحمن ابن حبيب الذي أراد أن يقبض عليه، ولا نعلمُ سبب اختياره لقبيلة مغيلة: فهل لكونِ هذه القبيلة هي قبيلةُ مولاد بدر؟ أم أنّ هذه القبيلة كانت تربطها ببني أميّة وشائجُ الولاء والحلف!.

إنّ رواية ابن خلدون حول مكوث عبد الرّحمن بن معاوية بضواحي مازونة في جوار قبيلة مغيلة تُقَوّيها روايةُ المقري صاحب “نفح الطّيب”، والذي ذكر أنَّ عبد الرحمن بن معاوية لحق بمغيلة، وبعث بدراً مولاه إلى الأندلس لطلب بيعةِ موالي بني أمية من المروانيين وأشياعهم، وهناك اجتمع بهم بدر، فبثّ موالي بني أميّة الدّعوة لعبد الرحمن بأقاليم الأندلس وأظهروا رغبتهم في قدومه.

وفي موضع آخر يقصّ علينا المقري قصّة طريفة حدثت لعبد الرحمن بن معاوية مع امرأة من قبيلة مغيلة تسمى “تكفات” فقال: (حكى غير واحد أنّه لما هرب من الشام إلى إفريقية قاصداً الأندلس نزل بمغيلة، فصار بها عند شيخ من رؤساء البربر يدعى وانسوس، ويكنَّى أبا قرّة، فاستتر عنده وقتاً، ولحق به بدر مولى أبيه بجوهرٍ وذهبٍ أنفذته أخته إليه، فلمّا دخل الأندلس واستتبّ أمره به سار إليه أبو قرة وانسوس البربري، فأحسن إليه وحظي عنده وأكرم زوجته تكفات البربرية التي خبأته تحت ثيابها عندما فتشت رسل ابن حبيب بيتها عنه، فقال لها عبد الرحمن مداعباً حين استظلت بظلّه في الأندلس: “لقد عذَّبْتنِي بريح إبطيك يا تكفات على ما كان بي من الخوف، وسَعَطْتني بأنتن من ريح الجيف”، فكان جوابُها له مسرعة: “بل ذلك كان والله يا سيدي منك خرج ولم تشعر به من فرط فزعك”، فاستظرف جوابها، وأغضى عن مواجهتها بمثل ذلك، وهذا من آفات المزاح).

وفي أرض مغيلة بالجزائر وجد عبد الرحمن بن معاوية الأمان، فبقي بها وهو ينتظر عودة مولاه بدر، ويروي لنا صاحب كتاب “أخبار مجموعة” تفاصيل مهمّة تؤكّد بقاء عبد الرحمن بأرض مغيلة إلى أن عاد إليه مولاه بدر بالأخبار السارّة فقال: (كان ابن معاوية في مغيلة في طاعة ابن قرّة المغيلي منتظرا لبدر مولاه فمضى القوم في المركب فلم ينشب ابن معاوية وهو يصلي المغرب حتى نظر إليه مقبلا في اللُّجِّ حتى أرسى وخرج إليه بدر سابحا فبشّره).

ومن مكان غير بعيدٍ عن ميناء المرسى الصغير شمال الشلف، ركب عبد الرحمن بن معاوية مع أنصاره، وعبَرَ معهم البحر حتّى بلغ  جزيرة الأندلس، فنزل بساحل إلبيرة في ثغر المُنكَّب  Almunecar، وذلك في ربيع الآخر سنة 138هـ (سبتمبر سنة 755م)، وبعد عدّة معارك وصراعات ضدّ القِوى التي كانت تتصارع على حُكْم الأندلس، استتبّ الأمر لعبد الرحمن الدّاخل صقر قريش، فأحيى دولةَ بني أميّة بالأندلس، تلك الدّولة التي لا تزالُ معالمها الحضارية وآثارها العمرانية باقية إلى اليوم، ولا شكّ أنّ “صقر قريشٍ” لم ينس أنّ قبيلةً جزائرية أكرمت وفادته، وأنقذته من بطش خصومه، وكانت سببا في  إنقاذه وإنقاذ الأندلس من تلك الفتن الطاحنة التي كادت أن تعصفَ بالجزيرة مبكّرا.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
1
  • مختار

    ليتها لم تفعل