-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

قراءة في أسباب تطور الحركة السنوسية

قراءة في أسباب تطور الحركة السنوسية
أرشيف

نمت الحركة السنوسية في عهد محمد بن علي المهدي نمواً كبيراً، ووصلت إلى ذروة قوتها وتضاعف عدد الزوايا أكثر من أربعة أضعاف، عما سبق، وانتشرت هذه الزوايا في الصحراء الكبرى، وعلى طريق مصر، وتونس، وفي واداي… وغيرها.

وكان من أسباب هذا النمو السريع: طبيعة الحركة، ونظمها المتطورة بالنسبة لعصرها، وفهمها لطبيعة المجتمعات القبلية، وطول المدة التي قضاها الزعيم الثاني في قيادة الحركة؛ إذ تجاوزت أربعين سنة، فتمكن أثناءها من تركيز العمل الذي بدأه والده، وكان يقول: «إن والدي بدأ عملاً من المنتظر أن يأتي بنتائج عظيمة، وقد أخذت على عاتقي إتمامه، وليس عليَّ غرض اخر»، وكانت سياسته الحكيمة تمنعه من الاحتكاك بالدولة العثمانية، أو الدول الأوروبية، وحصر جل اهتمامه بنشر الدعوة بين القبائل، وساعدته أخلاق رفيعة وصفات حميدة تحلى بها في إقبال الناس على الحركة السنوسية، واحتلَّ بها مكانة رفيعة في قلوب الإخوان والأتباع ومؤيدي الدعوة، فكان يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويبث العلوم في أوساط القبائل متبعاً في ذلك كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

لقد تحلى الإمام محمد المهدي بعلم وورع وتقوى، وشخصية جذابة، وبُعْد نظر، وثاقب فكر، ورأي صحيح، وعزم شديد، وحرص أكيد على إتمام البناء الذي شيده والده، والعمل بكل جهد وقوة من أجل نشر الدعوة بين أهل البلاد القريبة والبعيدة في إفريقية الوسطى خصوصاً، حتى ذاع صيته، وتمكن السنوسيون بفضل الله تعالى ثم جهودهم المتواصلة من أن يصلوا بدعوتهم إلى قلب الصحراء الكبرى، وأطرافها، حتى جهات بحيرة تشاد وما يجاورها من إمارات إسلامية قديمة، أو قبائل زنجية وثنية، أو قبائل أخرى لم يكن قد صلح حال إسلامها بعد. (المهدي السنوسي، ص 134).

لقد دخلت عدة قبائل إفريقية في الدعوة الإسلامية بفضل الله تعالى ثم جهود الحركة السنوسية، ومن أشهر القبائل التي استجابت لدعاة الحركة السنوسية، قبيلة بلي التي كانت على الوثنية،

ووصلت الدعوة الإسلامية إلى شعب التيدا في بلاد تيبستس بالصحراء الكبرى جنوب واحة فزان، فقد كانوا لا يعرفون من الإسلام إلا اسمه، وكان دعاة الحركة السنوسية قد توغلوا في إفريقية ووصلوا إلى بلاد الجلا في الحبشة، فيرسلون إليها في كل عام من هَرَر، حيث تتمتع السنوسية بنفوذ كبير، وتكاد تجد كل الرؤساء منهم في بلاط الأمير بلا استثناء، وكانت الحركة السنوسية تفتح المدارس وتبني المساجد، والمراكز الإصلاحية، وتشتري العبيد ثم يعلمونهم مبادئ الإسلام، ثم يعتقونهم ويرسلونهم إلى أوطانهم وقبائلهم ليدعو أقوامهم إلى الإسلام. (انتشار الإسلام في القارة الإفريقية، د. حسن إبراهيم، ص 49).

واستفادت الحركة السنوسية من هجرة القبائل العربية القديمة في إفريقية، وجددت الصلة معها، ونسقت معها في الدعوة وفي الجهاد ضد فرنسة، ومن أشهر هذه القبائل: أولاد سليمان، أولاد يعقوب، أولاد غنَّام، المحافيظ… وغيرها كثير، وكان قد استقر بعضها في مالي، وتشاد، والنيجر، ونيجيرية، والكاميرون. (جهاد الليبيين ضد فرنسة في الصحراء الكبرى ، محمد القشاط) وتمكن الإمام المهدي من أن يبني علاقات قوية مع الإمارات الإسلامية في واداي، وبرقو، وكانم وغيرها، واختط خطة حكيمة كانت مبنية على الحيطة والحذر من النفوذ الصليبي الأوروبي في إفريقية، ثم عدم التردد في مكافحة هذه الدول إذا جد الجد، كما فعل مع فرنسة.

وواصل المهدي السنوسي سيره في فتح المراكز الإصلاحية، والمدارس القرانية، وبناء المساجد التي اهتمت بنشر الإسلام، وقام بإرسال دعاة ومبشرين بالإسلام، ودين الله، اشتهر منهم العلامة محمد عبد الله السني، والشيخ حمودة المقعاوي، وطاهر الدغماري، وغيرهم كثير.

وقام المهدي بتقوية الصِّلات التجارية بين الزوايا وبين مراكز التجارة والأسواق المختلفة، ونتج عن ذلك استتباب الأمن في هذه الربوع وانتشار الطمأنينة، فقد زاد نشاط القوافل وأقدم المسافرون والتجار على قطع الفيافي والصحارى من غير تردد، فظهرت بوادر العمران في الطرق الصحراوية، وأصبح من الميسور على دعاة الحركة أن يصحبوا هذه القوافل وهؤلاء المسافرين والتجار في رحلاتهم وأسفارهم، ويدعوا إلى الإسلام، ويقضوا على الوثنية، ويعطلوا بذلك أعمال التنصير الذي تدعمه الدول الأوروبية في إفريقية.

وبالفعل حققت الحركة انتشاراً عظيماً في أوساط إفريقية؛ مثل: بلاد النيجر، والكنغو، والكامرون، وجهات بحيرة تشاد، وذاع خبر الحركة السنوسية في إفريقية من خلال طريق واداي وبرقو وكانم وأداموا والداهومي وغيرها، وبدأت الدول الأوروبية تشعر بخطر الحركة السنوسية، وشرعت في حبك دسائسها ومؤامراتها وتأليب الدولة العثمانية عليها، لقد صدمت الدول الأوروبية بالنتائج التي حققتها الحركة السنوسية، واشتاطت غضباً وحقداً على الإسلام، وهي ترى قبائل وثنية مثل التبو، والبرقو، والندى تدخل طائعة مختارة في الإسلام.

كان الدعاة السنوسيون يعملون بالليل والنهار، والسر والإعلان، ويقطعون المسافات الشاسعة من أجل دعوة الله تعالى، وكان بعضهم يترك أهله وأطفاله في الجغبوب، ذات مرة دخلت السيدة صالحة البسكرية زوجة ابن السنوسي على محمد المهدي، وكان يجلها ويحترمها، وقالت له: إن نساء الإخوان قد سئمن كثرة أسفار أزواجهن، وطول تغيبهم، وعدم استقرارهم، فابتسم وقال: إن الجهاد طويل وشاق، وإن العمل يتطلب الجد، والشيء الذي ينتظرنا وينتظر إخواننا في المستقبل أشق مما هم عليه الان.

وكان الإمام المهدي مهتماً بالبناء الداخلي للحركة، ولذلك أشرف بنفسه على إصلاح ذات البين بين القبائل، وكان يرى وحدة الصف والتربية الجهادية مهمة في مواجهة المعارك القادمة ضد الإسلام.

وعندما اشتد النزاع بين قبائل الجبارنة وأولاد علي، ووصل إلى مرحلة أوشك القتال أن يندلع بينهم بسبب حادثة قتل جربوع بن الشيخ أبو سيف الكزة بمصر، وكان الشيخ أبو سيف بن أبي شنيف الكزة من الشخصيات الظاهرة بين شيوخ الجبارنة ومسموع الكلمة، وهو والد المقتول، فأصبح داعية كبيراً لغزو أولاد علي، وأنشد قصيدة باللغة الشعبية مثيرة لما كمن من الأحقاد والضغائن، مسعرة لشرار الغضب، ومذكية لنار الانتقام يستنجد بها جميع القبائل الموالية له أو التابعة والمرتبطة به، كما جرت العادات، ويحثُّهم في قصيدته بالاستعداد لغزو أولاد علي، وقتل رجالهم، وأخذ أموالهم وسبي نسائهم، وكان مطلع قصيدته يقول:

يا عون من قابلا عون وأشرف على رأس عال أو جنة فراجين وحسون أو عينت طامية في المشالي (برقة العربية الأمس واليوم، ص 204).

وكاد الشيخ أبو سيف أن ينجح فيما أراده للغزو ؛ حيث لبَّى طلبه، وأخذت قبائل أولاد علي تستعد للمعركة، وأرسلت إلى الشيخ أبي سيف تدعوه للإسراع للقتال، وفي هذه الأثناء وصل كتاب من شيخ زاوية مسوس السنوسي الأشهب إلى الزعيم محمد المهدي يخبره بالأمر، فأرسل المهدي في طلب الشيخ أبي سيف بسرعة، فامتثل الأخير أمر السيد المهدي في الوقت الذي تقرر فيه الغزو، وأرجأه إلى أن يعود من الجغبوب، ولما وصل الشيخ أبو سيف ومَثُل أمام يدي إمام الحركة السنوسية الذي أخذ ينصحه للإقلاع عما عزم عليه، ويبين له حرمة هذا الفعل الجاهلي، فامتثل الشيخ أبو سيف أمر المهدي، وأقلع عن فكرته، وعاهد إمام الحركة بالعدول عنها وأن لا يعود لمثلها، بالرغم عمّا في ذلك من المساس بكرامته وكرامة بني قومه وسمعتهم التي يرون حفظها في الأخذ بالثأر، ورجع الشيخ أبو سيف وبر بوعده وأمر قومه والنجدات التي استعدت لمساعدته بالرجوع إلى مواطنهم، وكتب إلى زعيم قبائل أولاد علي وبقية شيوخهم يخبرهم بالعدول عن رأيه، وأن يكونوا في مأمن من جهته لا خوفاً منهم ولا خشية من العاقبة، ولكن امثتالاً لأمر الشرع وطاعة لزعيم الحركة السنوسية.

وكان المهدي يحرص دائماً على إزالة البغضاء والشحناء من نفوس القبائل المتعادية ويدعوها إلى أخوة الإسلام، وشغلها بالطاعة، ودفعها نحو المعالي، والأخلاق الرفيعة، واستطاع أن ينظم من القبائل كتائب للجهاد ساهمت في قتال فرنسة، وبعد وفاته قاتلت إيطالية.

لقد كرس المهدي جهوده للبناء الداخلي في الحركة، واختط طريقاً سلميّاً تجنب الاحتكاك فيه جهد المستطاع بالقوى المحيطة به، واستطاع أن يتخذ مواقف تدل على بعد نظره وثاقب فكره من الثورات التي حدثت في السودان وفي مصر، وكذلك الدول الأوربية.

ملاحظة هامة: اعتمد المقال في مادته على كتاب: “الثمار الزكية للحركة السنوسية”، للدكتور علي محمد الصلابي.

المراجع:

· الثمار الزكية للحركة السنوسية، د. علي محمد الصلابي، الطبعة الأولى، 2005م.

· انتشار الإسلام في القارة الإفريقية، د. حسن إبراهيم حسن، مكتبة النهضة المصرية، الطبعة الثالثة، (1984 م).

· جهاد الليبيين ضد فرنسة في الصحراء الكبرى، محمد القشاط، طبعة عام 1988 م.

· السنوسية دين ودولة، د. محمد فؤاد شكري، دار الفكر، طبعة 1948 م.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!