-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

قراءة في التخبط المالي والاستثمار

التهامي مجوري
  • 3240
  • 0
قراءة في التخبط المالي والاستثمار

ما أعلنت عنه وزارة المالية الجزائرية من دعوة أرباب المال، لوضع أموالهم في البنوك ولا يتركوها مخزنة في صناديقهم، امر مهم ويشعر بشيء من فهم الخطورة التي تهدد سوق المال، عندما يخرج عن أداء دوره في حركة المجتمع، فيكتنز في الصناديق والخزْنات؛ لأن المال جعل ليدور لا ليكتنز في ركن لا يدخل ولا يخرج.

ولكن الأهم منه لو أن وزارة المالية سلكت مسلكا آخر في استدراج المال من صناديق اهله إلى السوق، بتخفيض الضرائب مثلا او استحداث صيغ استثمارية جديدة أو تشجيع قطاعات معينة وتفضيلها على قطاعات أخرى، وقبل ذلك أن يكون هناك استقرار جبائي ضريبي، بحيث يضع المستثمر ماله في السوق من غير أن يخاف من اهتزازات المستقبل، اما أن تدعو وزارة المالية الناس إلى دفع أموالهم إلى البنوك لتدخل إلى السوق، وتقدم لهم ضمانات بالكلام، فلا نظن ان تكون الاستجابة كبيرة؛ لأن حبل الثقة بين الإدارة والمواطن مقطوعة، ومهما تكلمت الوزارة عن هذه الضمانات، فإن صاحب المال لا يشعر بالاطمئنان على ماله؛ لأنه يشاهد التجاوزات بالجملة، لا سيما ان هذا المال المراد إدخاله في حركة التجارة والسوق المالية، قد جمع بطرق غير قانونية، سواء بالاتجار الشعبي (تجارة الكابا والتهريب، والأسواق الأسبوعية الشعبية، تجارة العقار، تجارة السيارات)، أو بالتهرب الضريبي،  أو بالاتجار في الممنوعات، مثل تجارة الذهب والمخدرات، أو عن طريق الفساد في الرشاوي واستغلال النفوذ، كل هذه الأموال غير مدونة رسميا، أي هي كتلة نقدية، خارج السوق المالية الجزائرية، فهي مثل المواطنين المولودين وغير مسجلين في البلديات، فعندما يعلن عن عدد السكان، لا يحسبون ضمن عدد سكان الشعب، تماما مثل الثراء الذي يقع للناس خارج أجورهم الرسمية، وتجاراتهم المصرح بها، فهو ثراء واموال موجودة بالفعل، ولكنها غير مدونة في سجلات الدولة الخاصة بالكتلة النقدية للبلاد.

فالكتلة المالية التي هي خارج السوق المالية الوطنية، قد نشأت بهذه الطريقة، وصاحبها الذي يعرف جيدا أنه اكتسبها بطرق غير قانونية، وإن اقتنع البعض أنها مشروعة عرفا، هل من السهل عليه أن يستجيب ويضع أمواله في بنوك خاضعة للدولة، وهو يشعر انه سيحاسب عليها؟

حبذا لو أن وزارة المالية تساءلت قبل الكلام عن أي ضمانات، لماذا كانت هذه الأموال خارج حركة المجتمع؟ لأن ما كان خارج المجتمع، هو حتما خارج القانون الذي ينظم سيرورة الأموال في البلاد. وإذا كان الأمر كذلك، فإن المنطق يقتضي أن يسوى الموضوع قانونيا، فيشعر رب المال أنه يملك هذه الأموال قانونيا، مثل الذي تزوج زواجا عرفيا وولد له اولاد، فإن أول إجراء لتسوية وضعيته هو عقد الزواج، ثم الانتقال إلى الأولاد وتثبيت نسبهم. نفس الشيء بالنسبة للمال المكتسب بطرق غير قانونية، فإن أول ما ينبغي الالتفات إليه ليستجيب صاحب المال بتسليمه إلى البنوك، هو أن يشعر أن ماله لم يعد خارج القانون، وإلا فإنه سيختار له السبل التي تعجبه وتريحه..، وسيبقى الموضوع معلقا.

وإذا كانت الإدارة تنسى فإن التاجر لا ينسى تجربة سحب ورقة الـ500 دج النقدية في منتصف ثمانينيات القرن الماضي في عهد وزارة بوعلام بن حمودة، حيث عاش التجار أياما من الاضطراب، طوابير على البنوك.. محاسبات على مبالغ مالية هامة كانت مخزنة في البيوت.. سكتات قلبية بالجملة، ذلك أن الدولة قررت إلغاء ورقة نقدية من التداول وهي ورقة 500 دج، وأمهلت مالكيها أياما معدودة قليلة لاستبدالها في البنوك، وما دامت الأموال المكتنزة خارج السوق وكانت كثيرة، ومن نوع هذه الورقة النقدية بالذات التي يفضلها التجار؛ لأنها الورقة كانت قيمتها مقارنة بسوق النقد اليوم، تعادل المليون سنتيما تقريبا. وإلى جانب ذلك محدودية الوكالات البنكية، فوقع الناس في حرج، مما سبب للبعض أتعابا منها تلف أموال وخسائر كبيرة، سواء لمن تجاوزوا المدة المحددة أو الذين تعرضوا للمراقبة المحاسبية والجبائية… هل يستجيب التجار اليوم لنداء وزير المالية؟

إن امتصاص الكتلة المالية الخارجة عن حركة السوق، وسحبها ونقلها إلى البنوك خطوة هامة، ولكن دعوة الناس إلى وضع أموالهم التي كوَّنوها بطرق ما، خارج القوانين الرسمية في البنوك، دعوة غير مستقيمة، سواء من ناحية الدولة التي اعترفت بواقع نشأ في غفلة منها او تقصير، أو من جهة المواطن الذي لا يملك قدرا من الثقة تجاه الإدارة، بحيث تسمح له بمطاردة الخوف على مستقبل ماله.

وإذا استمرت الإدارة في تجاهل أصول الموضوع، وقفزت على معالجته باستدراك الفوائت القانونية والاجرائية، وتجاهلت تحيين العمل الإداري والتسييري، فإن الأمر سيبقى ترقيعيا، ومفتوحا دائما على خرق القانون، أو قل فتح المجال للإبداع في خرق القانون، أكثر من التفكير في تصحيح الوضعيات غير القانونية، وتبقى الإدارة تعالج دائما الخروقات ولا تفكر في بناء الفعل الاستثماري الجاد، والخروج من المؤقت الدائم الذي نعيشه منذ عقود.

إن الفعل الإداري الجاد في الفعل الاستثماري والتسيير المالي والتنمية الاجتماعية، يتطلب وقفة عند ثلاثة مصطلحات، لا يحسن إهمالها في الكلام عن المال والاستثمار وهي: الرصيد الاجتماعي والكتلة المالية والتنمية الاقتصادية. فالرصيد الاجتماعي هو الأساس في كل حركة اجتماعية، سياسية كانت أو ثقافية أو استثمارية؛ لأن الرصيد الاجتماعي، عبارة عن مخزون من القيم المادية والمعنوية تراكمت عبر الأجيال بقوانينها الضابطة لها، وكما تساءل مالك بن نبي رحمه الله، في كتابه المسلم في عالم الاقتصاد، لو افترضنا أن واشنطن تحطمت عن آخرها، هل يكفيها رصيدها المالي من الذهب لإعادة بنائها؟ واجاب لا يكفيها وإنما ستعتمد على رصيدها الاجتماعي، وهو الجهد المخزن في ثنايا المجتمع ومنظوماته التي تسيره.

والمجتمع الذي لا يجد السبل ميسرة في استثمار رصيده لصالح البناء الجماعي، فإنه يحول ذلك الرصيد عن مساره الصحيح، فيخدم به فئة أو جماعة أو فكرة لا علاقة لها بالجماعة، ومن ذلك هذا الثراء المشاهد عند الأفراد والفئات في حركة المال خارج الأطر القانونية.

اما الكتلة المالية فلأن المال هو الوسيط الضامن لتحرير المجتمعات من ضغط الحاجة، فالمرء قد يملك الكثير من الأمور ويكون غنيا بأتم معنى الكلمة، ولكنه سرعان ما يتحول إلى فقير عندما يفقد السيولة، والعكس قد لا يملك المرء شيئا ولكنه بالضمانات الاجتماعية يشعر بالغنى.

وفي نفس الوقت، وجود المال ككتلة معطلة في صندوق أو خزنة عند الأفراد، لا ينفع كثيرا بل ربما تحول إلى معول هدم للمجتمع؛ لأنه عطل عن أداء وظيفته، فيقع التضخم، حيث تفقد الأوراق النقدية قيمتها، عندما تكون الكتلة المالية التي بأيدي الناس، أكثر من حجمها في رصيد الدولة، وللتوضيح.. إذا كان رصيد الدولة مليون سنتيم يقابله 1 غرام ذهب مثلا، فإن التضخم يعني أن 1 غرام ذهي يقابله 2 مليون سنتيم مثلا، والفارق ان قيمة السنتيم نزلت بمستوى 50 بالمائة.

أما التنمية فهي منظومة تربوية سياسية ثقافية، تهدف إلى صناعة روح تنموية في المواطن، أقلها وأضعفها ان يقوم المواطن بما عليه من واجبات بلا اجتهاد ولا تقصير.

وهذه المصطلحات الثلاثة وضعت للتعبير عن مدى تحكم المجتمعات في هذه المجالات الثلاثة، والقدر المستثمر منها، سواء في إدارتها وإدارة علاقتها ببعضها أو بتوظيفها لصالح المجتمع في حراكه.

وتقييمنا لحركة المجتمع الجزائري، نرى ان رصيده الاجتماعي، تحكمه العلاقات والمصالح الشخصية والعرف العام، ومن ثم فهو موظف توظيفا خارج الأطر القانونية، وكذلك الكتلة المالية، فهي خارج حركة المجتمع، بحيث تمثل هذه الكتلة قدرا لا بأس به، يظهر في قيمة الدينار المنحدرة، ويظهر في الثراء الفاحش لأفراد ومجموعات من غير مبررات موضوعية لهذا الثراء، بسبب التسيب والفساد واعتماد المجتمع على العرف في معاملاته المالية وتجاهل الرسميات، وتخبط السياسات التنموية التي يحكمها منطق العلاجات الاستعجالية والاستثنائية. 

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
  • اسحاق

    عملية حساسة جدا وجب الاشهار لها

  • عبد اللطيف ك.

    تابع
    على الطرفين و بعد ال 50 سنة من الاستقلال التلاحم للاستفادة من المنجزات التي تحققت من خدمات الدولة للمجتمع و حرص المجتمع على الخروج من التخلف في كل المجالات
    ان الخروج من ازمةما و ان كانت مفاجئة تتم بمشاركة الجميع في نظام يحفظ للجزائر مكانتها الداخلية امام بني وطنها و امام الخارج مع الشعوب الشقيقة و الصديقة
    ليكن قدوتنا العربي بن مهيدي القوا بالثورة الى الشعب فانني انسخ عنه مقاله القوا الاقتصاد للشعب وكونوا منظمين له .

  • عبد اللطيف ك.

    تابع
    لدينا مؤسسات تفرض الدولة من خلالها سلطتها لكن هل لدينا مؤسسات تربط المجتمع بسلطته الحاكمة؟
    نعم توجد مؤسسات مجتمعية كالجامعة و كالمسجد الجامع و جمعيات و .. لكن ليس لها فاعلية نجد حملة شهادات كثر يتخرجون من مؤسسات مجتمعية تتعب الدولة في توفير الحياة الكريمة لهم جميعا شغل سكن سيارة ..بعيدا عن مشاركة اطر المجتمع علماء بحاثة ائمة اغنياء و...
    المجتمع اليوم يسير مع العلم وليس كالامس بالتقاليد و العرف و ..
    علينا ببناء نظام منبعه الدولة بمجتمعها حتى لا يتكون لدينا خوف طرف من الاخر تدريجيا
    يتبع

  • عبد اللطيف ك.

    الرصيد الاجتماعي والكتلة المالية والتنمية الاقتصادية
    نعم المصطلحين 1 و 2 اما المصطلح 3 هو ناتج عن الاثنين السابقين بعد فقه في كيفية تسيير المجتمع بالمال المتوفر
    نحن نتجاهل مجتمعنا حتى اننا نتعمد تركه بعدم المشاركة في التنمية و تكتفي الدولة بالموظفين لديها و لا تتم مشاركة المجتمع في بناء دولته الا برخص او فرض ضرائب او وقت اكتساب شرعية بواسطة الانتخاب او مقاولين خواص ..
    التسيير الحر نفتقده لماذا لا نحسن التنمية؟ السبب ضعف الحوار التنموي بين المجتمع و الدولة فالاقتصاد قضية الجميع يتبع

  • mimoun

    بهذا الشعار لا تزيدونهم الا نفورا هل لدى هؤلاء الذين يدعون الى هذا الامر من بدائل او انه علامة من علامات الاحباط اين الذكاء كما يقول المثل في الامتحان يعز المرء او يهان .

  • الطيب

    هو حقيقة تخبط ! فلا أصحاب الأموال المكتنزة بعيدًا عن الأعين عندهم الثقة في البنوك و مسيريها و لا البنوك عندها ما تقنع به هؤلاء لضم أموالهم إليها ! أمر مثل هذا لا يحدث إلا عندنا ! في حين أنّ البلدان " اللي هربت علينا و خلاتنا في الغبار و الغرقة " لا تتعامل بالأوراق النقدية و لكن بأرقام تُحول من حساب إلى آخر فتزيد أو تنقص على أجهزة الحاسوب فقط ، حتى من الناحية الأمنية تنحصر الجرائم المالية أو الجرائم التي تحدث بسبب الأوراق المالية .......ياو إصلاح الإنسان أولاً ثم الإصلاح المالي .