-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

قصة الإعدام.. مواقف وآراء وأحكام

التهامي مجوري
  • 2415
  • 0
قصة الإعدام.. مواقف وآراء وأحكام

كلما طرح موضوع حكم الإعدام للنقاش، والمطالبة بإلغائه، إلا وشعرت ان القصاص الإسلامي هو المقصود بهذا النقاش، وذلك بغاية إلغاء المرجعية الإسلامية تحديدا، رغم أن المستفيد الأول من هذا الإلغاء اليوم هم المسلمون، لأن أول ضحايا الإعدام هم دعاة التيار الإسلامي ومناضلوه، وغيرهم من أحرار العالم، المغلوبين على أمرهم، أمثال سيد قطب، محمد فرغلي، ومحمد شعباني، وعمر المختار، وأحمد زبانة، وتشي غيفارا، وغيرهم كثير، لأن الإعدام في عالمنا المتخلف هو العصى الغليظة التي يلوح بها الطغاة والمستبدون فيه، ومن ثم لو كان الأمر بهذه البساطة في إلغائه، لكان هؤلاء الضحايا وأغلبهم من المسلمين؛ بل من علمائه ودعاته، من أول المطالبين بإلغائه، أو على الأقل بالعمل على افتكاكه من أولئك الطغاة الذين استباحوا الدماء والأموال والأعراض.

وهذا الشعور الذي ينتابني عندما يطرح الموضوع للنقاش، ربما كان بتأثير من متابعاتي للصراع، الإسلامي – العلماني، الذي أخذ من الأمة الكثير من الطاقة والجهد والوقت، بتتبع العورات وتصيد الأخطاء والمزالق، ثم زرع الفتن والأحقاد والنزاعات بين أجيال المسلمين. وربما هذا الذي دعاني إلى قراءة مناقشة حكم الإعدام، على أن المسلمين يعتبرون هذا النقاش متعلق بحكم شرعي ثابت بنص الوحي.. وهو كذلك في بعض جوانبه، ولكن ليس على الإطلاق، اما خصومهم فيطرحونه كفكرة “غير إنسانية”، وشكل من أشكال العقوبات التي عافها الزمن، وهذه تهمة للدين أكثر منها انتقاص من أهله، بينما قصة الإعدام هي أخطر من مجرد حد نحافظ على تنفيذه، وأعمق من مجرد عقوبة تتطور بتطور الحياة البشرية، ومن ذلك على سبيل المثال لا الحصر أن حكم الإعدام له جانبان: جانب الأحكام وجانب المواقف.

أما جانب الأحكام فيتعلق بالتشريع والقضاء؛ لأن لكل مجتمع منظومته القضائية التي تضبط تشريعاتها وفق تحقيق مصالح المجتمع –حقوق وواجبات- وحمايته من كل ما يخل به من أفعال الأفراد والجماعات وسلوكاتهم، ومن التهديدات المحتملة من أي جهة كانت، وهذا الجانب في التشريع الإسلامي له شقان أيضا، شق يسمى القصاص وهو الشق الذي حسم فيه الوحي، بنصوص قرآنية، وهو شق لا حق لأحد في الإجتهاد فيه، وإنما يبقى اجتهاد العلماء في كيفية إثبات الجريمة التي تستوجب حكم الاعدام. وشق يسمى التعزير، وهو تشريع اجتهادي، وأحكام اجتهادية، للمشرع الحق في وضع الأحكام بما يناسب حق المجتمع في الحفاظ على مصالحه، وللقاضي حق التقدير فيما وضع من أحكام وتشريعات.

وتشريع حكم الإعدام، تعتريه الحالتان، حالة القصاص كما في حالة القاتل العمد التي نص عليها القرآن الكريم، وحالة التعزير كما في حالة الخيانة العظمى في الحروب والتجسس لصالح العدو والذين يسعون في الأرض فسادا وإفسادا في المجتمع، كالتجارة في المخدرات والانخراط في شبكات الجريمة المنظمة…إلخ، وسواء كان تشريع الحكم بالإعدام في إطار إقامة الحد قصاصا أو تعزيرا، فإن القاعدة في الحدود عموما أو ما يسمى بـ”الأحكام الجزائية”، وحكم الإعدام تحديدا، اعتماد اليقين وتفسير الظن والشك والتردد لصالح المتهم، وكما قال الفقهاء قديما “ادرؤوا الحدود بالشبهات”، ذلك ان كرامة الإنسان مقدمة على مصلحة موهومة فردية كانت أو جماعية.

ولكن ما دامت كرامة الإنسان بهذا المستوى من الاحترام والتقدير، فلماذا الإعدام إذا؟

هنا تدخل تقديرات المصالح والمفاسد في المجتمعات، سواء فيما يرتكب من جرائم وتقديرها أو فيما يقدر من عقوبات ومنها الإعدام، إذا استثنينا ما نص عليه القرآن أو ثبت الضرر اليقيني المخل بالمجتمع، مثل الخيانة كما أسلفنا.

وعليه، فإن القول بصعوبة إلغائه لا يختلف كثيرا عن المطالبة بتثبيته؛ لأن ثبوته في النص القرآني الغير قابل للتعطيل والإلغاء، لا ينفي انحراف ممارسته وتطبيقه في واقع الناس، فإلى حد الآن لم يستفد منه العالم كثيرا؛ بل بقي -في أغلب الأحيان- بيد الطغاة يصفُّون به حساباتهم مع الخصوم، ومن ثم لم يحقق الإعدام الغاية القضائية منه، وهي إقامة حق المجتمع في الجريمة المرتكبة في حقه أفرادا وجماعات، وهو الحد أو القصاص.

إن القصاص -الإعدام-  المنصوص عليه في الوحي، وأكد عليه ولا نظن أن هناك مجالا للتحلل منه، هو عقوبة القتل العمد، والقتل العمد فهو من أعلى وأقسى الاعتداءات على كرامة الإنسان، ومن ثم يستحق أقسى العقوبات، وأعدلها أن تكون بالمثل، فالإعدام من هذه الناحية، تسوية بين نفس القاتل ونفس المقتول، ما دام القاتل سَهُل عليه إزهاق روح وحرمان أهله منه، فالقصاص العادل هو الجزاء بالمثل، حفاظا للحق العام وانتقاما لذوي المقتول، حفاظ لكرامة الجنس الإنساني التي أودعها الله فيها. ولعل هذا هو مراد قوله تعالى (ولكم في القصاص حياة).

ولما كان حد “قتل  القاتل عمدا”، بهذا المستوى من الوضوح والعدل، لم يناقش الفقهاء الحد في ذاته لعدالته ولقوته في تحقيق العدالة الإنسانية يقينا، وإنما ذهبوا يبحثون ويدققون في كيفية القتل العمد، لأن من قتل بمسدس ليس كمن يقتل بعصا أو حجر أو لكمة أو بالدفع…إلخ، حتى تثبت  التهمة يقينا وليس بالظن أو غلبة الظن، وذلك للتفريق بين من أراد القتل وقتل، وبين من قتل ولم يرد القتل.. فالذي قتل وأراد هو المعني بالحكم، اما الذي قتل ولم يرد فغير معني؛ لأن النية غير موجودة او لا توجد قرينة دالة عليها، فيبقى للقاضي حق تقدير العقوبة فيما دون الاعدام، ومع هذه الاحتياطات بقي الفقهاء المسلمون يركزون دائما في الحدود الشرعية عموما ومنها القتل على درء الحدود بالشبهات، فيتعلقون بالشبهة أكثر من الحرص على إقامة الحد.

أما التعازير فهي اجتهادات مشرعي المجتمعات وفق ما يقدرون من مصالح ومفاسد، وما يليق بالمفاسد من عقوبات، ومن هذه العقوبات حكم الإعدام، وحكم الإعدام في تقديري ليس هو المشكلة؛ لأنه قد يكون هو العلاج الأنفع للكثير من الموبقات التي يرتكبها المجرمون في المجتمعات لا ينفع مها إلا العقوبات القاسية، فالخيانة العظمى هي خيانة للمجتمع، وهي أضر عليه من قتل فرد، وإذا كان العرف الإنساني قد يعتذر للقاتل عمدا لسبب من الأسباب متعلق بمظلمة ما مستهجنة، فإن خيانة المجتمع لا يوجد ما يبررها إلا فساد الطبع والتحيز لغير مصلحة المجتمع، وأغلب الظن أن ذلك هو المقصود بقول النبي صلى الله عليه وسلم “من بدل دينه فاقتلوه”؛ لأن الاختلاف في الدين حق مضمون شرعا، إذ (لا إكراه في الدين)، ولكن تبديل الدين في بعده السياسي في ذلك الوقت تغيير ولاء، وتغيير الولاء في واقع كان فيه النبي صلى الله عليه وسلم في حرب مع المجتمعات الأخرى ومنها المجتمع العربي الجاهلي، حتى أنه لم يعتبر المسلمين الذين لم يهاجروا من المجتمع الإسلامي لمجرد بقائهم في مكة ضمن أقراد المجتمع الجاهلي (والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء).، وكذلك تجار المخدرات والاتجار في البشر والأعضاء البشرية وتجار السلاح ومسعري الحروب والمستبدون بشعوبهم من الحكام الظلمة…، كل هؤلاء يعتبرون من مرتكبي الجرائم الإنسانية، ولا علاج لهم إلا تنقية المجتمعات منهم.. ومع ذلك ليس هنا المشكل وإنما المشكلة الكبرى غير متيسرة دائما هي “المحاكمة العادلة”؛ لأن القضاء كثيرا ما يكون موظفا توظيفا سيئا، فتكون الإعدامات  في غير محلها الذي جعلت له.

وأمر آخر متعلق بموضوع الإعدام هذا، بعيدا عن التشريع والقضاء والسياسة، هو ان هناك اختلافا جوهريا بين الفكر الإسلامي والثقافات الشرقية عموما، والفكر الغربي

اما الفكر الإسلام والثقافات الشرقية فترى أن الإنسان هو محور الكون، وتحكمه قيم كما تحكم الكون والحياة، اما الفكر الغربي فيرى أن الإنسان هو محور الوجود، أي هو رب هذا الوجود وسيده، ولا قيمة خارج القيم التي يكتشفها ويسنها الإنسان في الحياة، ومن ثم وقع تقدير الموقف من الإعدام، والكثير من الأمور المتعلقة بالإنسان.

وذلك متروك للفلاسفة ورجال الفكر للبت في تفاصيله وجزئياته.  

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
  • ماذا بعد ان قست القلوب

    مع كثرة البشر المتكاثرين كالشر على وجه المعمورة زادت أحقادهم و هججت عقولهم و أفسدت ارواحهم - فلا يجب التهاون في أن نعدم كل قاتل قتل بغير حق - ولا لسجون فهناك سجين فقر في الشارع هو أحق بتلك المصاريف التي تصرف على المجرين القابعين في السجون - و بإختصار شديد لن يتحقق قانون إعدام عادل إلا عندما يحكمنا حاكم عادل وتتحقق عدالة طاهرة من كل خبيث - أما لان يبق موضوع الإعدام غير عادل في زمن الظلم والظلام - الاساس اعوج و الجذور فاسدة و الحق غائب و الاصلاح واجب و الحكيم غائب غائب
    وجهة نظر تحتمل الخطا
    ربما

  • نورالدين الجزائري

    {... ادخلوا في السلم كافة.. } 208 البقرة . الدخول في: ظرفية بكل أطيافنا : من الملبس الطعام إلى الإعتقاد لا تتركوا أي شيء إلا و يكون في السلم: السلام الإسلام و السُلم .. كافة: لا تتركوا شيء مثل ما نقول : كفيتك هذا و كف عنه هذا و هذا يكفيك شامل كامل .
    فيما يخص حكم الإعدام يحتاج لتبسيط و شرح و كلام فيه و لكن بإختصار حنفية الأحكام في كل حكم و عبادة تصعد و تنخفض على حسب حال المجتمع و القاضي المشرع و الحاكم يجب أن ينظر للأحكام بعلم و حكمة و حق ... و إلا سوف نظلم أنفسنا و إسلامنا .. و الكلام ذو شجون

  • نورالدين الجزائري

    فالطاء بالشدة ( ّ ) تعني القطع المشخص و الطاء المخففة تعني القطع المجرد ...
    و لنا أن ننظر في القصاص : كلمة تعني قص الشيء أي إتبعه بالتمام و الكمال مثل آلة قطع الكتان تسمى مقص لأنها تقطع الكتان بالمقدار المعلوم من السنتيمتر إلى المتر . و القصاص تعنى في كتاب ربي أنظر ما الذي سوف تفعله سوف تلاقي نفس الجزاء بالتمام و الكمال و لهذا جائت مع القصاص كلمة : حياة أي أننا لم نؤمن بالحكم القصاصي لا مفر منه فلا نقدم على السيئة أو الظلم فتكون الحياة موجودة لكل العباد و أقصد بذلك : الأمان ! لأن الله تعالى قال

  • نورالدين الجزائري

    أي اوقفوا السارق عن طريق : التعزير البهدلة دفع غرامة سجنه توبيخه أو قطع يده في حالة قصوة فهنا نجد الحنفية في الحكم تتراوح بين البهدلة إلى القطع و لكن لا يجوز لنا أن نصعد مباشر للقطع لأن الآية لا تتكلم عن القطع مباشرة بل تعني : كفوا ! أوقفوا ! أحبسوا ! مثل ما نقول : فاقطعوا دابر الكافرين أو أقطعوا الطريق على مَن ظلم و هي كلمة فيها معنى القطع المعروف و لكنه ليس هو لوحده يُعنى به . أما فقطّعوا : هنا لابد أن يكون عمل فزيائي جسدي يسيل منه الدم مثل نسوة قصة يوسف { .. و قطّعن أيديهن ..} 31 يوسف .

  • نورالدين الجزائري

    في عهد الرسول صلى الله عليه و سلم لم تحدث حادثة قطع يد إلا نادرا و المشهور منها حادثة : إمرأة من بني مخزوم التي كانت تؤذي نساء المدينة في سرقت أملاكهم في : تعزية / جنازة / عرس / عقيقة / مأتم ... نفس مريضة جدا لم تنفع معها الموعظة و لا النصيحة و لا القيّم و لا الحكم ! فلابد من وضع حد لهذا المرض المزمن حتى يكون الآخرين في مأمن . و عندما ندقق في الآية الكريمة { و السارق و السارقة فاقطعوا أيديهما ..} 38 المائدة . الآية قالت : فاقطعوا و لم تقل : فقطّعوا و هنا فرق كبير بين الكلمتين ، فالأولى اقطعوا :

  • نورالدين الجزائري

    عمر بن الخطاب في حقبة حكمه لم يلغي الحكم بعقوبة السارق كما يظن الكثير منا بل أنزل الحكم إلى أقصى أخف العقوبة : عدم معاقبته أي أن هناك أزمة إضطر المرء أن يسرق ( و ليس مسموح لكل المجتمع ) عمر ليس نائم يتكلم عن أناس محتاجين مظطرين لهذا العمل ـ السرقة ـ ! فالحنفية في الأحكام بين شدتها و تخفيفها يرجع لحالة المجتمع إذا زادت السرقة بشكل بشع بدون مبرر أدت للقتل و النهب و فوضى فهنا الحاكم العاقل يُصعد درجة الحكم إلى أقصاه و إذا كان الأمان موجود سرق أحدهم عن خطأ غفلة أو عمدا فليس لنا الحق أن نقطع يده .

  • نورالدين الجزائري

    جوهر فهم الإسلام هو : الحنفية . إن هذا الدين حنيفا و الحنفية هي الميل رجل أحنف أي مائل عن الإستقامة ، فما هي علاقة الحنفية بالحكم الشرعي ؟ الله تعالى بيّن لنا الحدود : أن لا نعتديها و مرة لا نقتربها ! ففيه حركتان في حقل واسع و هو الإسلام بين الإقتراب و الإعتداء فنحن نتحرك في مساحة واسعة جدا جدا . و عندما الحق سبحانه يقول { تلك حدود الله ... } فالآية ترمز إلى النقطة البعيدة لأن لكل مساحة لها حدود فهي ليست الحدود في ذاتها عند نقطتها بل لا تذهبوا بعيدا حتى تصلوا إليها فتسيئوا و تعتدوا ... أعطي مثال

  • أيمن

    مجهود متميز من الأستاذ التهامي ... ومقال وجبت مطالعته أكثر من مرة لاحتواءه على العديد من الاجابات لهذا الموضوع الشائك