الرأي

قوة اللغة العلمية وقوة الجيوش؟!

يُروى أن القائد العسكري الفرنسي لويس ليوتي (Lyautey1854-1934)، الذي ساهم في توسّع مستعمرات بلاده، قد صرّح ذات يوم قائلا : “اللغة هي لهجة تمتلك جيشًا [برّيًا]، وبحريةً، وطيرانًا”. كما قال عالم اللسانيات الروسي، الباحث في اللغة العبرية، ماكس وينريش Weinreich (1894-1969): “اللغة هي لهجة لها جيش وأسطول”.
ويُفهم من هذين الرأيين أن نجاح وانتشار أي لغة مرتبطان بالقوة العسكرية التي تقف وراءها. وفي الواقع، إذا نظرنا إلى العصر الحديث وانتشار اللغات الأنكليزية والفرنسية والاسبانية -وإلى حد معيّن البرتغالية والروسية- فلا يمكن ألا نوافق الرأيين. فانتشار تلك اللغات تتدعّم بقوة السلاح وبالمدّ الاستعماري وبسط النفوذ على المستضعفين تحت شعارات مختلفة.

ضحايا الحروب

خلال القرن العشرين، خلّفت الحرب العالمية الأولى من القتلى نحو 20 مليون ضحية. أضف إليها 40 مليون نسمة أبيدت بسبب الأوبئة والأمراض المترتبة عن تلك الحرب. كما نجم عن الحرب العالمية الثانية ما يقدّره البعض بـ 70 مليون قتيل أو يزيد.. كل ذلك في سبيل الاستقواء والهيمنة على الغير. وانجرّت عن ذلك حروب أخرى قادتها بعض البلدان الاستعمارية، ونشبت حروب “بالوكالة” تسبب فيها الصراع على النفوذ بين الدول الاستعمارية في القارات الخمس. وقد أدى هذا التطاحن إلى عشرات ملايين الموتى تضاف إلى الـ 130 مليون قتيل خلال الحربين العالميتين.
كل ذلك يدعم مقولتي ليوتي ووينريش بحكم أن كل منطقة يتوسّع فيها المستعمر بالسلاح تنتشر فيها لغته، لا محالة! لكننا دعنا نكتفي بالنظر إلى انتشار اللغات في النشر العلمي، متخذين الرياضيات نموذجًا ومعتمدين على بنك البيانات الألماني “زنترالبلات ماث” Zentralblatt Math الذي تأسس عام 1931 ليرصد كل ما ينشر في نحو 2300 مجلة محكمة مختصة في الرياضيات. إنه بالإمكان أن نجد في هذه البيانات مبررات لرأي المارشال ليوتي ومبررات أخرى لكون التقدم العلمي والاقتصادي في بلد لا يكفي لانتشار لغته عبر العالم.

اللغتان الفرنسية والأنكليزية

يتضح من بنك البيانات أن عدد المقالات المنشورة عام 1920 بالفرنسية هو نفس العدد الذي نجده صادرا خلال العام الجاري، وهذا العدد هو 410 مقالا، لا غير! بمعنى أن بعد مرور قرن عاد هذا العدد إلى ما كان عليه مرورا بعدة محطات تزايد في بدايتها ثم تناقص : فمن 1420 مقالا عام 1940 انتقل هذا العدد إلى 1524 بحثا عام 1970، ثم بدأ التنازل حيث كان 1232 مقالا عام 1990 و 602 مقالا عام 2010!
بطبيعة الحال، فهناك أسباب كثيرة لهذه الوضعية، منها أن بدءا من عام 1960 تناقص التأثير المباشر للاستعمار الفرنسي في الوقت الذي تنامى فيه النفوذ الأمريكي العسكري والعلمي عبر العالم، وتنامت معه لغته على حساب اللغات الأخرى، ومنها الفرنسية. وهذا دون أن ننسى دور بريطانيا في نشر لغتها قبل وبعد الستينيات.

والجدير بالملاحظة أنه في الوقت التي تهاوت فيه الفرنسية إلى 900 مقال عام 2015 فقد تجاوز عدد المقالات المنشورة في الرياضيات باللغة الأنكليزية 91 ألف مقال! بينما كان عدد المقالات باللغة الأنكليزية 2870 مقالا عام 1940 وبلغ 65800 مقال عام 2000، ثم 95 ألف مقال عام 2010. وهكذا، فمسيرة اللغتين الفرنسية والأنكليزية تؤيد رأي ليوتي ووينريش خاصة إذا رافقت القوةَ العسكرية قوةٌ اقتصادية وعلمية.

اللغتان الروسية والألمانية

نجد النشر باللغة الروسية يقفز من 550 مقالا عام 1940 إلى 4160 مقالا عام 1970، ثم إلى 7800 مقال عام 1990. وبعد ذلك يبدأ التراجع بـ 4960 بحثا عام 2000 إلى 3950 مقالا عام 2015، حتى وصل 1870 مقالا عام 2018 !
وليست اللغة الروسية ببعيدة عن وضع اللغتين الأنكليزية والفرنسية إذا ما اعتبرنا أن جلّ جمهوريات الاتحاد السوفييتي كانت بمثابة “مستعمرات”… وإلا كيف نفسّر التفكك السريع للاتحاد في مطلع التسعينيات؟ ومع ذلك لا بد أن نضيف بأن السلطة في موسكو كانت تخدم لغتها أيام عزها باستقطاب طلاب العالم الثالث وبتشجيع النشر العلمي بالروسية. وهذا ما لا يمكن اعتباره انتشارا بـ”قوة السلاح”.
كانت ألمانيا حتى العقود الأولى من القرن العشرين مركز إشعاع علمي، وكان عدد المقالات المنشورة باللغة الألمانية عام 1940 يعادل 1700 مقال. ثم تنازل هذا العدد متأثرا بتداعيات الحرب العالمية الثانية، وواصل الانحدار حتى بلغ 60 بحثا عام 2017!
من ينكر قوة وتفوّق ألمانيا اقتصاديا وصناعيا على مستوى العالم؟ ورغم ذلك تشهد لغتها هذا التقهقر. هنا لا بد من الإشارة إلى أن القوى العظمى قَهرت ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية، وضيّقت عليها الخناق خاصة من الناحية العسكرية. لا شك بأن ذلك قد قلّص أيضا رقعة انتشار اللغة الألمانية عبر العالم. وربما تجوز هنا مقارنة وضع اللغة الألمانية باللغة اليابانية؟
وفي هذا السياق، نذكّر بما يُعرف بـ”أسطورة” فردريك مولنبورغ Muhlenberg (1750-1801) الذي كان أول رئيس لمجلس النواب في الولايات المتحدة. ويُروى أن تصويت السيد مولنبورغ بـ”لا” حال آنذاك دون أن تصبح الألمانية اللغة الرسمية للولايات المتحدة ! ذلك أنه تم التصويت في مجلس النواب عام 1794 حول إجبارية ترجمة القوانين إلى اللغة الألمانية فكانت نتائج التصويت 42 “لا” مقابل 41 “نعم” … ولو صوّت مولنبورغ بنعم لصارت الألمانية لغة رسمية! من حقنا أن نتصوّر بأنه لو كانت الألمانية لغة الولايات المتحدة اليوم فربما أصبحت اللغة الأولى في العالم بدل الأنكليزية!

اللغة الصينية

لم يكن النشر العلمي باللغة الصينية عام 1940 شيئا يذكر. وفي عام 1970 ظهر 30 بحثا في الرياضيات حسب بنك البيانات الألماني، ثم ارتفع إلى 1476 مقالا عام 1990. وبعد ذلك تزايد عدد البحوث بسرعة : 2900 مقال عام 2000، ثم 4100 مقال عام 2005، ثم 4300 مقال عام 2017. وهذا التقدّم لم يتم بقوة السلاح بل أنجز بقوة الاقتصاد وبالروح الوطنية التي تجعل المواطن الصيني يميل إلى خدمة لغته. ولا شك أيضا أن ثمة تشجيعا من السلطات المركزية في بكين لبسط نفوذها الاقتصادي على العالم سيليه نفوذ من نوع أخرى.
وهكذا نرى من خلال هذه العيّنة حول انتشار اللغات، سيما في المجال العلمي، أن قوة السلاح والرغبة في التوسّع يُعتبران عاملين بارزين، لكنهما لا يمثلان في آخر المطاف، شرطا لازما ولا كافيا لتحقيق تقدم اللغة العلمية أو انتشارها.

مقالات ذات صلة