-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

لغة “أكلوني البراغيث”

عمار يزلي
  • 1975
  • 0
لغة “أكلوني البراغيث”

لم يحدث قبل اليوم أن كان هناك لغط أشد من لغط الحديث عن إصلاح المنظومة التربية المرتقب. فلقد بقينا طيلة جيل ونصف نتحدث عن الإصلاحات من خلال الإساءات، لأننا كنا دائما “نصلح” تعليمنا بالإساءة إليه، عندما نربط هذه الإصلاحات بتلك الإصلاحات التي عادة ما تكون قد سبقتها في “الأم فرنسا”! كل الإصلاحات عندنا، من المدرسة إلى الجامعة، كنا ننقلها عن الأم فرنسا! منذ إصلاح 71 وإلى اليوم. المشكل ، أنه حتى عندما كانت فرنسا تجرب ولا تنجح، سرعان ما كانت تعود عن إصلاحاتها، فيما نبقى نحن مستمرين فيها إلى ما بعد ذلك، وكأننا نريد أن ننجح برنامجا فرنسا، لم تنجح فيها فرنسا هي بنفسها.

هذا الارتباط الأعمى، والانجراف الأخرق وراء كل ما هو فرنسي وعمل وفرنسي، مرده إلى حالة الاغتراب التي تركتها لنا “الأم” المطلقة، من خلال تركتها فينا: من مثقفين وإدارة ومسئولين وسياسيين، بقوا تحت تأثير العقل الفرنسي حتى وهم تحت العلم والقسم الوطنيين. لا نريد أن نسميهم “حزب فرنسا” كما يحلو للكثير تسميتهم خطأ أو عن جدارة واستحقاق، ولكن التأثير الفرنسي باد وواضح ومؤثر. المشكل ليس في الثقافة الفرنسية عندنا، بل في التبعية البلهاء. خاصة في المنظومة التربوية. فالتربية ليست تربية لا فرنسية ولا انجليزية، والتعليم تربة والتربية تربية. غير أن رغبة الفصل بين التربية والتعليم كانت دائما موجودة. وإذا كانت التربية حاضرة في المناهج والقرارات، فإن هذه التربية كانت تربية غير ذات تربة محلية. نعلم لقد حاولت القوى الوطنية والدينية أن تؤصل للبرامج، لكن بقي عملها سطحيا ولم يطرح بشكل حضاري. فنحن لا نملك عقدة من أية لغة أجنبية، لكن نملك عقدة من أؤلائك الذين يجعلون من اللغات، إيديولوجيا أجنية لتكرير خطابات ولتلقين سلوكات لا تمت بصلة بالواقع الحضاري للجزائر.

الحدث حول الدارجة، ليس موضوعا جديدا، فقد ورد الحديث عنه والإشارة إليه في لجنة بن زاغو والتي قادها الوزير الأسبق الذي عمر طويلا بن بوزيد (وبغا يزيد)، لكنها لم تطبق عمليا إلا بمقدار. وجاء اليوم الحديث أكثر صراحة بعد إحياء الفكر عن طريق الوزيرة الجديدة التي كانت عضوا في هذه اللجنة. هذه الفكرة، لم تكن حتى فكرة لجنة بن زاغو، بل فكرة فرنسية أيام الاحتلال. كانت فرنسا تدرس العربية بالدارجة لضرب الفصحى لأنها لغة الدين ولغة الأرستقراطية بالنسبة لليسار الشيوعي ولأنها لغة التخلف لدى العلمانيين وكونها لغة استعمارية لدى التيار البربرفوني! هناك الآن تيار “فرنكو شيوعي بربرفوني” يريد إحياء هذا الفكرة الميتة واعتبار الدارجة لهجة حية فيما الفصحى لغة ميتة! المشكل، هو أنه بأية لهجة نتعلم؟ وهل هناك لهجة واحدة؟ لكل ولاية 20 لهجة أو أكثر، أية لهجة ستكون لغة تدريس؟ غريب أمر هؤلاء وغريب أمرنا. لكن لا غرابة عندما نعرف المطلب: ضرب الفصحى لكي لا تبقى هناك سوى لغة واحدة هي الفرنسية! هذا هو مربط الحمار!

نمت على هذه التساؤلات لأجد نفسي أعلم التلاميذ في السنة أولى دارجة:

قلت لهم: أعطوني هدرة أي جملة نيشان أي صحيحة! قال لي أول تلميذ رفع إصبعه الوسطى: ما نبغيش نقرا، باغي نخرج “نقرة”! قلت له: مليح، زيد، شكون قال: قالت لي واحدة: مانلبسش الحجاب، على خاطرش الإسلام دين الإرهاب. قلت لها: هاااكذك زيدوا…هذه هي التربية..زيدو. شكون قال: رفع آخر أصبعه والقسم كله فوضى وضحك وضرب وركل: “صاحبي هذا شرا زوج قارويات كيف وما عطانيش جبدة!” قلت له: علاه ما تعطيهش جبدة! (ونجبد معاااه…. ونعطيه!) رفع أخر أصبع رجله من تحت الطاولة: “راني مديقوني ومفوتي كاللي ضربوه بينالتي”! قلت له: أنا راني أكثر منك كاره حياتي! بعدها استدرت للتلاميذ وأنا أحاول إسكات حسهم: أسكتوا الله يسكت حسكم..! دروك رايحين نقراو “الجيوغرافي وليسطوار..وما كانش ليزيسطوار”..اسمعتوا؟ خرجوا الكايي والستيلو وبداو تكتبوا: هيا راني بديت: (ورحت أملي عليهم وهم لا يعرفون الكتابة. البعض يكتب بالفرنسية الدارجة والبعض يكتب بالدارجة الفرنسية والبعض بالعربية الدارجة وبالبعض بالأمازيغية الفرنسية..المهم خالوطة جالوطة..مثل هذه اللغة التي أكتب بها أو ألعن!

يالله أكتبوا:…” دخلت فرنسا لبلادنا في 5 جويلية 1830 وما خرجتش منها حتى لخمسة جويلية 1962. الأفلان نتاع لباندية وقطاع الطرق هم اللي داروا الحرب على أمنا فرنسا الله يكثر خيرها وينفعنا ببركتها وخرجوها تتيري.”

خلاص كملتوا الكتبة نتاع الريزيمي نتاع ليسطوار؟ يالله الجغرافية بداو تحنشوا: لانجيري بلاد كبير وعريض. فيه 2.4 مليون كيومتر كاري. وغاشيه يفوت 38 مليون بنادم. عندنا البترول بصح رخيس. اللغة نتاعنا هي الفرنسية والدارجة. الدينار هي الدوفيز نتاعنا اللي دايمن طايح.”


سألني تلميذ: آآآالحاج..ما تسلفليش vingt mille  نفليكسي؟ حم بوووك، نردهالك غدوة! قلت له: حسبتي بوك؟ فيس بوك؟ أكتب وبلع فمك! نطق أخر من اليسار: بويا، مازال ما نكملوا؟ أنا عندي ماتش درك، نخرج؟ قلت له: أخرج ..تهنية منك!

ثم ارتفعت الأصوات بالكلام والصراخ والضحكات والضجيج والأغاني الماجنة والهواتف المحمولة التي صارت ترن في كل مكان. الكل يتصل بزميله لكي يحدثوا الضوضاء من أجل التوقف عن الكتابة والإملاء مع قرب وقت الاستراحة. رحت أطرق على الطاولات حتى سكت الجميع. عندها طلبت منهم قبل خمس دقائق من نهاية الحصة:

غدوة تجيوا كاتبين وحافظين قصيدة “د يدي واه”، و”البراكة” و”على الزرقة” و”عيشة” للفنان الأديب الشاعر الكبير خالد! ومن بعد نقرا الشعر نتاع مامي! فرح الجميع وراحوا يغنون كل الأغاني جماعيا قبل أن يقولوا لي: حافظينها  آآآلحاج.. حنا كنا خايفين لا تقول لنا آجيوا حافظين “الحمد لله” وإلا “قل هو”.

هؤلاء هم سنة أولى دارجة، فما بالك بالسنة السادسة؟

عندما أفقت، كنت أمام كتاب يتحدث عن لغة عربية مكسرة القواعد والإعراب والمعروفة في الأدبيات التراثية بلغة “أكلوني البراغيث”.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!