ملحمة شعب
ما يجري في مصر منذ 3 جويلية الفارط إلى الآن هو ملحمة حقيقية لشعبٍ يتوق إلى تكريس حقه في الحرية والديمقراطية الحقيقية ويرفض عودة الديكتاتورية والطغيان وحكم العسكر تحت أي مسمّى كان.
أطلَقوا عليه الرصاصَ الحي أمام ثكنة الحرس الجمهوري وفي المنصة وارتكبوا بحقّه المذبحة تلو الأخرى لترهيبه وإجباره على التنازل عن حقه في اختيار حاكمه ونوّابه ودستوره والعودة إلى عهد الخنوع للقوة والخضوع للاستبداد والقهر، فصمد وزادته تلك المجازر تحديا وإصرارا على انتزاع حرياته وحقوقه الديمقراطية ودحر الانقلاب وحكم العسكر مهما كانت جسامة التضحيات، ثم داهموا اعتصاميه في ميداني “رابعة” و”النهضة” بالدبابات والمجنزرات والآليات الثقيلة وقتلوا وجرحوا الآلاف بشكل دموي وحشي فاق جرائم الصهاينة في فلسطين، وأحرقوا دون رحمة أو شفقة جثث القتلى، وأجسادَ الجرحى وهم أحياء يُرزقون، لإرهاب هذا الشعب وإجباره على قبول حكم الانقلابيين، فزاده ذلك أيضاً ثباتاً وتشبُّثاً بالشرعية وحوّل كل شوارع الكبرى للمدن المصرية إلى “ميادين مفتوحة” بديلة لـ”رابعة” و”النهضة” ونزل إليها بالملايين يتظاهر فيها ليلاً نهاراً دون أن يكترث بحظر التجوال ولا خطر القتل في أي لحظة.. ثم أدخلوا الطيرانَ ساحة المعركة أصبحت الطائرات العمودية تضرب المتظاهرين بالرصاص الحي والقنابل الحارقة لإرغامهم على الهروب والعودة إلى بيوتهم، فزادهم ذلك ثباتاً وإصراراً على تقديم عشرات الشهداء يومياً، ورفضاً للعودة إلى الوراء.
لقد تابع العالمُ أجمع بذهول كيف وقف ذلك الشاب في مدينة الإسماعيلية بشجاعة أمام آلية عسكرية وتحدّاها بصدره العاري ويديه المفتوحتين وتلقى رصاصة دخلت من بطنه وخرجت من ظهره، وهذا وحده يعني أنه لا الرصاص الحي ولا الغازات السامّة ولا حرق الجثث ولا الطائرات العمودية أصبحت ترهب المتظاهرين، وأن أيام الجيش الفاشي الذي تجرّد تماماً من ضميره وأخلاقه وإنسانيته وأصبح يذبح شعبه بوحشية، قد أصبحت محدودة، فماذا يمكنه أن يفعل أكثر مما فعل؟ هل يقتل عشرات الآلاف؟ مئات الآلاف؟ الملايين؟ وهل يقبل عناصرُه أن يواصلوا إطلاق النار على مواطنيهم بهذا الشكل الدموي المأساوي أسابيع أو أشهراً ليبقى السيسي ووزيرُ الداخلية وفلول مبارك في الحكم دون حق؟
الجيش يريد، من خلال هذه المجازر المهولة والمتكررة، أن يجرّ الإخوان جرا إلى المواجهة المسلحة حتى يسحقهم عسكرياً في معركة غير متكافئة العدّة، وقد تلتحق فعلاً قلة من الشبان المندفعين الميّالين للصدام والعنف بجبهة السلفيين الذين يقاتلون الجيشَ في سيناء، أما أغلبية الإخوان فهم متمسكون بسلمية مظاهراتهم إلى غاية دحر الانقلاب على الطريقة الإيرانية عام 1979؛ فقد واجه الجنودُ الإيرانيون الثورة الشعبية بالرصاص الحي وقتلوا الآلاف من أجل تثبيت حكم الشاه، ولكن ثبات المتظاهرين وإصرارهم على السلمية وتقديم المزيد من التضحيات إلى غاية إسقاط الشاه، دفع الجنود في الأخير إلى إيقاف دوَّامة القتل والانقلاب عليه وإجباره على الهروب من إيران ليعيش في المنفى بقية حياته يتجرع غصّة فقدان نعيم الحكم وتورّطه في قتل آلاف الأبرياء من شعبه.
هذا السيناريو هو الأقرب إلى الحدوث في مصر إذا صمد الشعبُ أسابيع أخرى أمام آلة القتل والقمع الجهنمية، ونعتقد أنه سيصمد ويواصل ملحمته الأسطورية، ولن يتحمّل الجنودُ بعد أسابيع قتل عشرات الآلاف من المتظاهرين وسينقلبون على السيسي والفلول حتماً وينهون حكمهم الفاشي ويحيلونهم إلى المحاكمة على جرائمهم ويعيدون الأمور إلى نصابها عبر إعادة الشرعية والوقوف إلى جانب الشعب وحماية إرادته التي لا تُقهر.