الرأي

من روائع الحضارة الإسلامية خلال العهد العثماني بالجزائر

ناصر حمدادوش
  • 2347
  • 9
ح.م

تعتبر الأوقاف من المفاخر الاستثنائية للحضارة الإسلامية، وهي من اللّمسات الخاصّة التي انفردت بها، والتي تنسجم مع روح الإنسان وفطرته في هذا الوجود، وهي ظاهرةٌ متجذّرة ومتأصّلة في حياة الأمّة الإسلامية، ومن الصّور المشرقة لإبداعات العقل المسلم في تعاطيه مع الواقع، وتجسيد الأبعاد الخيرية الرّاقية في التفاعل الإيجابي مع الإنسان والكون والحياة، وهي تعبّر عن نزعة الخير وإرادة التطوّع لديه، تترجم إحساسه العميق بالآخر، والتضامن الفريد مع الفرد والأسرة والمجتمع والأمة من ناحيتي القصد والأداء، بما يُجبِر نقص الدولة في خدمة المجتمع، ممّا جعل هذا النظام الوَقْفي من المعالم الفريدة في التاريخ الإنساني بخلفياته ومنطلقاته وغاياته، وهي التي تنطلق من أعماق النفس البشرية من ينابيع المشاعر الرّقيقة والعواطف النبيلة ومن بحار الحبّ والإيثار، كما قال تعالى: “لن تنالوا البرّ حتى تنفقوا ممّا تحبّون..” (آل عمران: 92)، لتبرُز تلك الخصائص النّفعية والسّمات الخيرية للطابع الاجتماعي للإسلام بصورةٍ فاقعة، إذ أنّ دافعه دينيٌّ إلاّ أنه تطوّر وأخذ أبعادًا اجتماعيةً واقتصاديةً وإنسانية، وأنّ رابطه المشترك هو التقرّب إلى الله تعالى وابتغاء مرضاته والتماس الأجر والثواب منه سبحانه.

والحقيقة أنّ نزعةَ الخير صفةٌ متأصّلة في المسلمين، الذين يرتقون من التديّن الفردي إلى التديّن الاجتماعي، ومن تديّن العبادات إلى تديّن المعاملات، ومن تديّن الهويّة إلى تديّن القيم، وهي من مراتب الخيرية التي يصلون بها إلى مدارج السّالكين في سُلّم القرب من الله تعالى، وقد قال صلى الله عليه وسلّم: “أَحَبُّ الناسِ إلى اللهِ أنفعُهم للناسِ..”، فهو شرف الإسلام الذي كشف عن نُبل نُفُوسِهم ويقظة ضمائرهم وعلوّ إنسانيتهم وسلطان الدّين عليهم، وهم يتخيّرون الأغراض الشريفة التي يوقِفُون عليها أنْفَس أموالهم ببذل الخير للغير.

ويأبى الإسلام إلاّ التأكيد على ترجمة مبدأ التكافل الاجتماعي بكلّ أغراضه وصوره وأشكاله، ومن مختلف مصادره: الوَقْف والزّكاة والصّدقة والرّكاز والغنائم والنّذور، ومن إنسانية الإسلام البالغة أنه ترك مجال الإبداع في الخير مفتوحًا لتلك النّفس الكبيرة التي تسكن جوانب الإنسان عن طريق الأوقاف، إذ لا تفرّق بين المسلم وغير المسلم، ولا بين الإنسان والحيوان، ولا بين المقيم وعابر السّبيل، ممّا جعلها ملاذًا آمنًا وبلْسمًا شافيًّا للفئات المحرَجة في المجتمعات، بأساليب أكثر إبداعًا وذوقًا وإنسانية، بما ميّز هذه الحضارة الإسلامية بهذا القطاع الثالث، الذي يشكّل وَصْلاً  بين القطاع العام والقطاع الخاص، وقد عرف انتشارًا أفقيًّا وعموديًّا في المجتمعات الإسلامية.

ولقد تشعّبت مصارف الأوقاف الإسلامية وتنوّعت صورُها المختلفة، وهي التي تمثّل انعكاسًا لافتًا لمدى ذوق وسموّ الحضارة الإسلامية، تدلُّ على مدى التقدّم والرّحمة التي بلغتها هذه الحضارة، ممّا منحها عُمرًا أطول وعمقًا أكثر مقارنة مع غيرها، بامتداد الفكرة الإسلامية في المجتمع وليس على مستوى السّلطة فقط، ومن ذلك امتدادها خلال العهد العثماني بالجزائر بين 1516م و1830م.

ويقوم الوَقْفُ على مبدأٍ شرعيٍّ وعلى صيغةٍ مُلزمة، من حيث قيمته وتعيين الغرض منه وكيفية الاستفادة منه ووجوه تنميته وانتقاله وشروط المشرفين عليه، ويكون الدّافع لهذا الوَقف هو الوازع الأخلاقي، المتمثّل في حبّ الخير والحماسة للدّين والعلم والصّلاح. وأنواع الوقف كثيرة لا يمكن حصرُها، وهي التبرّع والتطوّع بكلِّ ما يُنتفع به، فهناك من يوقِف عقارًا (أرضًا أو دكّانًا أو مسكنًا)، وهناك من يوقِف عيْنًا أو بئرًا لعابري السّبيل، وهناك من يوقِف حقولاً أو غلّةً من أشجار… وغيرها.

وللأوقاف أغراضٌ كثيرة، منها: العناية بالعلم والعلماء والطلبة والفقراء واليتامى والعجزة والمرضى وعابري السبيل، ومنها ما يكون للعناية بالمساجد والزّوايا والمدارس والمستشفيات والأضرحة، ومنها ما يكون للعناية بفئاتٍ معينة مثل: فقراء مكة والمدينة والأندلس، ومنها ما يكون لتدريس نوعٍ من أنواع العلم والفقه والذِّكر، ومنها ما يكون للجهاد أو أنواعٍ من المرافق العامّة كالطرقات والعيون والآبار وأماكن الرّاحة.. وغيرها.

يقول الدكتور أبو القاسم سعد الله، وهو يتحدث عن نظام الوقف خلال العهد العثماني بالجزائر: “ولكنْ بتطوّر الزّمن تكاثر وتعدّدت أوجهُه وأغراضُه، وقد تطوّر خاصّة في العهد العثماني نتيجة اعتباراتٍ سياسية واقتصادية.. وكانت الجزائر من بين المناطق الإسلامية التي شملها هذا التطوّر..” (تاريخ الجزائر الثقافي، ج 1، ص 227).

ولقد كان الوقْف خلال العهد العثماني بالجزائر نظامًا مستقلاً وقائمًا بذاته، يقوم على المؤسّسات الوقفية كجهازٍ إداريٍّ، يشرف عليه مجلسٌ علميٌّ ذو كفاءة، يتمتّع بالحصانة ولا تسمح لأيِّ سلطةٍ بالمساس به.

وعن مساهمة الحكّام العثمانيين في هذا الجانب الحضاري المشرق يقول سعد الله: “وهكذا فلا يكاد يوجد باشا ظلّ في الحكم مدةً طويلةً نسبيًّا إلاّ بَنَى جامعًا أو كُتّابًا أو زاوية وقَف الأوقاف على ما بناه، ولعلّ هذا يخالف ما قيل بأنّ العثمانيين في الجزائر لم يكونوا مهتمّين بشؤون الدّين، إنّ الآثار تدلّ على أنّ الحكام العثمانيين كانوا يشعرون ببعض الواجب الديني والاجتماعي اتجاه المجتمع الذي كانوا يحكمونه..”، ويقول: “وهناك وثائقٌ عديدةٌ تُثبت أنّ النّساء كنّ يشتركن في الوَقف أيضًا”،

ومن أشهر هذه الأوقاف:

– إدارة سُبل الخيرات الحنفية: والتي تشرف كمؤسّسةٍ وقفيةٍ جماعية على جميع الأوقاف المتعلقة بخدمة المذهب الحنفي.

-المذهب الرّسمي للدولة العثمانية- من مساجد ومدارس وزوايا وموظّفين وفقراء.

– أوقاف مكة والمدينة: والتي كانت تملك أواخر العهد العثماني: 840 منزلاً، 258 دكّانًا، 33 مخزنًا، 82 غرفةً، 3 حمّامات، 11 كوشةً، 04 مقاهي، فندق، 57 بستانًا، 62 ضيعةً، 201 إيجارًا، تُوَزّع مداخيلها كلّها على فقراء الحرمين الشريفين.

– مؤسّسة بيت المال: وهي من جهة مؤسسة سياسية ومن جهة خيرية، وهي ترعى جميع أموال اليتامى والغائبين والتركات والأموال التي تصادرها الدولة، وتقوم بدفن الموتى وتوزيع الصدقات وتقديم الهدايا أيام العيد.

– أوقاف الجامع الأعظم وبعض الزوايا بالعاصمة: وأوقاف الجامع الكبير بقسنطينة وتلمسان ومعسكر والمدية..

– أوقاف الأندلسيين: وهي من النّماذج الرّاقية والجميلة التي تكشف البُعد الإنساني التكافلي، بعد محنة الأندلسيين الذين نزحوا من إسبانيا إلى المغرب العربي، واستقرُّوا في المدن السّاحليَّة – وخاصّة الجزائرية، وساهموا في الحرب ضدّ التوسّع الصّليبي الأوروبي، قامت هذه الأوقاف بإعانة الأندلسيين اللاجئين الفارِّين من جحيم محاكم التفتيش الكاثوليكية الإسبانية، وذلك تخفيفًا لمعاناتهم وجبْرًا لخواطرهم من ألم التهجير القسري والتطهير العرقي والاضطهاد الوحشي.

يقول الدكتور سعد الله: “وهكذا تتضح أهمية الوقف في الجزائر خلال العهد العثماني، فقد كانت تؤدّي العديد من الوظائف ومنها: خدمة الدّين والتعليم، كما كانت عنوانًا للتضامن الاجتماعي، وكانت تمثّل بالنّسبة لأوقاف مكّة والمدينة الوجه السّياسي للجزائر أيضًا..”.

ولذلك ركّز الاحتلال الفرنسي للجزائر سنة 1830م على هدفٍ استراتيجي وهو تقويض نظام الأوقاف، لأنّ المؤسّسات الوقفية كانت تمثّل إحدى العقبات الحقيقية للاستيطان وانتقال الأملاك من الجزائريين إلى المحتلّين، كونها تشكّل في حدّ ذاتها جهازًا إداريًّا ووسيلةً فعّالة تحول دون المساس بالمقوّمات الاقتصادية والعلاقات الاجتماعية للجزائريين، يقول أحد الكتاب الفرنسيين، وهو”Zeys” :: (إنّ الأوقاف تتعارض والسّياسة الاستعمارية، وتتنافى مع المبادئ الاقتصادية التي يقوم عليها الوجودُ الاستعماري الفرنسي في الجزائر.)، ولذلك عملت الإدارة الفرنسية جاهدةً على إصدار سلسلةٍ من المراسيم والقرارات تنصّ على نزع صفة المناعة والحصانة عن هذه الأملاك الوقفية، ومنها: الخيانة والغدر بعدم احترام البند الخامس من معاهدة 5 جويلية 1830م الخاصّة بتسليم مدينة الجزائر، الذي يؤكّد على المحافظة على أموال الأوقاف وعدم التعرّض إليها، وقرار أكتوبر 1844م الذي ينصّ صراحةً على أنّ الوَقْف لم يعد يتمتّع بالحصانة، فقد أصبح يخضع لأحكام المعاملات المتعلقة بالأملاك العقارية.

وكان الهدف من تصفية الأملاك الوقفية هو التعصّب الدّيني الصّليبي بإحلال المسيحية مكان الإسلام في الجزائر وفي شمال إفريقيا، والقضاء على الهوية العربية الإسلامية للشعب الجزائري، لما تمثّله الأوقاف أيضًا كمصدرٍ ثريٍّ في بناء المساجد والمدارس والزّوايا والكتاتيب، التي توقظ الوَعي وتنمّي روح الجهاد والمقاومة ضدّ الاحتلال الفرنسي.

مقالات ذات صلة