-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

من غرائب الطب البشري.. زرع قلب خنزير في جوف إنسان!

من غرائب الطب البشري.. زرع قلب خنزير في جوف إنسان!

القلب عضلة كبقية عضلات جسم الإنسان الأخرى، ومادّته من مادتها، وعناصره من عناصرها، إلا إنه عضو نبيل. ونبله يشرِّفه ويرفع مقامه بين أعضاء الجسم. وعندما تفنى طاقته الحركية، ويهرع إلى السكوت، ويلوذ بالصمت المطبق، ويتوقف القلب عن النبض، وتتعطل عمليات ضخ وتدفق الدم من تجاويفه تنتهي حياة حامله. وفي صلاح القلب صلاح لكل أعضاء الجسم، وفسادها من فساده.

مرّ خبر الإعلان عن وفاة المريض الأمريكي الذي زُرع في صدره قلبُ خنزير، واستمر في الحياة مدة قاربت شهرين، مرّ مرور الكرام، ولم ينشغل به الناس كالعادة رغم أنه يحمل قدرا من الطرافة التي تستهوي الفضوليين، وتستولي على الاهتمام؛ ففي خبر وجيز أعلِنت الوفاة، ولم تتم الإشارة إلى تفاصيل أخرى. ولعل الأطباء الذين أحسوا بالنكسة آثروا تأخير التعليقات إلى وقتٍ لاحق.

إذا كان قلب الإنسان هو مستودع أحاسيسه وعواطفه وانفعالاته ومخزن الشبهات والشهوات التي تراوده، فكيف تصلح أعماله، وتستقيم تصرّفاته مع نفسه ومع أفراد محيطه الاجتماعي والدم الذي يتدفق في مجاري عروقه لسقاية أعضاء جسمه ينضحه قلب خنزير؟. أفلا يظل الأمر يشغل عقله في هذه الحالة كإبرة الوخز طول الوقت، ويقلقه في صحوه وفي نومه، في قيامه وفي قعوده، وفي حضور ذهنه وفي سرحانه؟.

تبدو المسافة الزمنية الفاصلة بين أول عملية جراحية لزراعة قلب نُقل من إنسان إلى إنسان آخر، والتي أجراها الجرّاح الجنوب إفريقي ذي الأصول الهولندية في مدينة “كيب تاون” في الثالث ديسمبر من عام 1967م والعملية الأخيرة التي أجراها فريق من الأطباء في أمريكا لنقل قلب خنزير أدخلت على مادته الوراثية تعديلات في مرحلته الجنينية للتقليل من تأثيرات عمليات الرفض من بعد زرعه في جسم المريض، تبدو هذه المسافة التي تعادل خمسا وخمسين سنة تقريبا مسافة طويلة، ولكنها في نظر البحث الطبي وتقديراته لا تحسب سوى كخطوة واحدة خطاها الإنسان في قاعات الطب الجراحي حاملا مشرطه في يده، ومستعينا بكل ما توصلت إليه التكنولوجيا الحديثة في عدة مجالات بيولوجية.

مثلما حفظ لنا تاريخ الطب في سجلّه أسماء أهم الأطباء الذين أقدموا على هذه العمليات سعيا منهم إلى إنقاذ المرضى، فإنه خصص صفحات في سجلّه الذهبي لذكر أسماء المرضى الطلائعيين المستفيدين حتى يُكتب لهم الذكر، وهم الذين يعرفون تحت اسم “المرضى التاريخيين”. والمريض التاريخي في أول عملية زراعة قلب هو لويس واشكانسكي (53 سنة) الذي بقي حيا مدة ثمانية عشر يوما بعد أن استفاد من قلب الآنسة دينيس دارفال (25 سنة) التي كانت ضحية حادث وقع في اليوم ذاته، وأصيب فيه إصابة بليغة تسبّبت في موتها السريري، وكان والدها هو من أعطى  موافقته بعد مراجعته واستئذانه. وأما آخر مريض تاريخي قدِّر له أن يدوَّن اسمه في هذا السجلّ، فهو المواطن الأمريكي دافيد بينيت الذي يبلغ من العمر سبعا وخمسين سنة.

يؤكد الأطباء الجرّاحون أن زراعة الأعضاء في أجسام المرضى تعدّ من أسهل العمليات الجراحية في عالم الطب حتى وإن كان بعضها يستغرق مددا زمنية طويلة؛ لأنها لا تستدعي سوى القطع والاستئصال وإعادة الربط والجسر. وعملُ الجراح فيها مشابه لعمل الميكانيكي الذي ينزع قطعة فاسدة تورمت أو اهترأت وتوقفت عن الاشتغال من محرك سيارة أو حافلة واستبدالها بأخرى جديدة. ولهذا، فإنّ الغرابة في العملية المذكورة سابقا تُقرأ في الجمع بين الإنسان والحيوان، ومحاولة جعل أجسام الحيوانات مستودعات لقطع الغيار العضوية من أجل إنقاذ حياة البشر، والاجتهاد في تعويض نقص الأعضاء البشرية، خاصة وأن أعداد المتبرعين بأعضائهم بعد وفاتهم لا يلبّون احتياجات سوق طلبات المرضى الذي يتسع يوما بعد يوم.

رافقت عمليةَ زرع قلب خنزير في جسم إنسان التي جرت في أمريكا، وبقاء الشخص المستفيد متمتعا بالحياة لعدة أسابيع، رافقتها عدة أسئلة صميمية من قبيل: لماذا اختير حيوان الخنزير عن بقية الحيوانات الأخرى؟ ولماذا استبعدت القردة التي كانت في السابق حيوانات مفضلة وتلبي الحاجة؟ وهل سيشجع نجاح هذه العملية على زراعة أعضاء أخرى تؤخذ من الخنازير أكثر تعقيدا بنيّة ووظيفة كالكبد والدماغ مثلا؟ وبعد ذلك، أفلا يُخشى أن يصبح الإنسان عرضة للأمراض المعدية التي تصيب الحيوانات؟ وفي الحقيقة، لا يملك الطب حاليا تطمينات مريحة عن كل هذه الأسئلة، ولا عن غيرها من مثيلاتها المتعلقة بالموضوع.

كما أثيرت طائفة أخرى من الأسئلة متعلقة بالسلامة السلوكية والأخلاق ونظرة أفراد المجتمع إلى الإنسان الذي ينبض في صدره قلب خنزير. ومن جانبهم، لم يتأخر نشطاء حقوق الحيوان عن الدخول في هذا الجدال بصخب وضجيج احتجاجاتهم اللجية التي تطالب بحماية الحيوانات، ومنع استغلالها حتى فيما ينفع الإنسان سيد المخلوقات تحت ذريعة “حق كل الحيوانات في الحياة”.

تقف عقبة الرفض المناعي؛ أي رفض جسم المريض للعضو الغريب المزروع في جسمه عائقا عصيّا صعب تحجيمُه والتغلب عليه. ويتكرر الفعل حتى أثناء زراعة أعضاء بشرية مما يستلزم تزويد المستفيد بعقاقير طبية تخفض من عدوانية خلاياه الدفاعية وتقلّل من مهاجمتها للعضو المزروع. والجديد في هذه العملية الأخيرة هو أن العضوَ المزروع مستجلبٌ من حيوان معدَّل وراثيا، أي أدخِلت على ذخيرته الوراثية (الجينوم) تعديلاتٌ حتى لا ينظَر إليه كجسم غاز ومستقدَم وغير مرغوب فيه، ولا تقبل استضافته، وينبغي محاصرته وعزله ولفظه ورفضه من خلال مضادات الأجسام التي يفرزها جسم المستقبِل للتخلص منه.

يُقصد بالتعديل الوراثي إدخالُ تغييرات تحسينية تنصب على المادة الوراثية “الحمض النووي” للخلية الأم في أطوارها الجنينية الأولى حتى تستجيب للطلب المنشود وتلبِّي الحاجة المأمولة بتسخير تقنيات الهندسة الوراثية بمهارة كبيرة، وهذا ما حصل مع الخنزير الذي أخِذ منه قلبه. واستعمال مفهوم “الهندسة” يقربنا من فهم العملية فهما تبسيطيا، ويعني إعادة البناء وفق تشكيلة مسطرة ومنظور مقيد لبلوغ أهداف محددة. وحسب الطبيب محمد منصور محيي الدين ذي الأصول المرجعية الباكستانية الذي درس الطب في جامعة كراتشي ثم هاجر إلى الولايات المتحدة الأمريكية ليواصل تعلمه، فإن فريق البحث قد أدخل تعديلات مسّت عشرة جينات بحثا عن تقريب التوافق بين قلب المعطي “الخنزير” وقلب الإنسان، منها مورّثة واحدة تتحكم في درجة نمو القلب حتى تقلص من درجة التفاوت بينهما. وإضافة إلى ذلك، جرى كبح ثلاثة مورّثات، وأوقفت عن الاشتغال حتى لا تتسبب في الرفض الفوري والسريع من بعد عملية النقل مباشرة، مع إضافة ست مورّثات بشرية لتوقيف عمليات تخثر الدم التي تعتبر من أعنف الصعوبات التي يواجهها الأطباءُ الجراحون.

وقع اختيار قلب حيوان الخنزير بسبب عدة مزايا مشجِّعة لا تتوفر في غيرها من الحيوانات الأخرى ومنها القرود التي ظلت زمنا مسيطرة على مشاهد زراعة الأعضاء في المستشفيات. ويذكر الأطباء من هذه المزايا درجة التقارب بين قلب الخنزير من حيث حجمه عند اكتمال نموّه وحجم قلب الإنسان، والتشابه الفيزيولوجي (الوظيفي) بينهما، وسهولة تربية الخنازير، وحبس فرص انتقال الميكروبات والفيروسات الكامنة في أجسام الخنازير إلى جسم الإنسان…

لم تكن ممارسات تقنيات الهندسة الوراثية الموظفة كافية لوحدها لتحقيق قهر الصعوبات المواجِهة في هذه العملية الجراحية الدقيقة، والمتعلقة بمجابهة عملية الرفض المناعي. ومن أجل كبت هذه الأخيرة وتقزيمها إلى أدنى حد وخفض مستوى، جرت الاستعانة بعقار طبي توصَّل إلى ابتكاره الجراح محمد منصور محيي الدين. وهو عقارٌ يختلف عن العقارات التي كانت تُستعمل سابقا، وفعاليته التثبيطية والتعويقية عالية.

قال المريض التاريخي دافيد بينيت بعد أن أيقن أنه يتعذر عليه الاستفادة من زراعة قلب بشري لعويض قلبه الفاشل: (إما أن أموت، أو أن أجري عملية الزرع هذه. أريد أن أعيش.. إنها خياري الأخير). وقرأت في الديوان الأزرق “الفيسبوك” تعليقا لأحدهم حول هذه العملية قال فيه: (لئن يُكتب لي الموت حينا خيرٌ من أن أعيش بقلب خنزير؟!). وبين الجملتين ترتسم إشكالية أخرى في منتهى العسر والصعوبة، وهي التي تحدد الموقف السليم من قضية زراعة قلب خنزير في جسم إنسان. وأعتقد، أنّ الطب الجراحي لا يستحضر هذه الإشكالية في اشتغاله، ويحاول دوما أن يتجاهلها. ولنا أن نسأل سؤالا للتبين: هل كان موقف الطبيب محمد منصور محيي الدين هو الموقف ذاته الذي وقفه الخمسون من زملائه الذين أشرفوا على إتمام هذه العملية في بواطن نفوسهم؟.

نُقل عن مرجعية دينية ذات وزن في العالم الإسلامي قوله: (في البلدان ذات المرجعية الدينية، قد يذهب هؤلاء ليعرفوا حكم الدين في هذا الأمر، وقد تكون الإجابة بالإباحة لما في ذلك من النفع على العباد والأمة). وتعقيبا على كلامه يجوز لنا أن نقول: إذا كان قلب الإنسان هو مستودع أحاسيسه وعواطفه وانفعالاته ومخزن الشبهات والشهوات التي تراوده، فكيف تصلح أعماله، وتستقيم تصرّفاته مع نفسه ومع أفراد محيطه الاجتماعي والدم الذي يتدفق في مجاري عروقه لسقاية أعضاء جسمه ينضحه قلب خنزير؟. أفلا يظل الأمر يشغل عقله في هذه الحالة كإبرة الوخز طول الوقت، ويقلقه في صحوه وفي نومه، في قيامه وفي قعوده، وفي حضور ذهنه وفي سرحانه؟.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!