الرأي

من معاني غزوة بدر الكبرى

التهامي مجوري
  • 3499
  • 2

مما لا يعلمه كثير من الناس، أن بعض مشاهد غزوة بدر الكبرى، قرآنا يتلى إلى أن تقوم الساعة، في سورة الأنفال؛ لأنها غزوة تختلف عن جميع غزوات النبي صلى الله عليه وسلم، ومكانتها في التاريخ الإسلامي والحركة النبوية الشريفة لا تشبهها مكانة على الإطلاق، والذين حضروها لا يرتقي إلى مكانتهم أحد من بعدهم.

قال الله تعالى في لعض تلك المشاهد: (كما أخرجك ربك من بيتك بالحق وإن فريقا من المؤمنين لكارهون، يجادلونك في الحق بعدما تبين كأنما يساقون إلى  الموت وهو ينظرون، وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين، ليحق الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون، إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين، وما جعله الله إلا بشرى ولتطمئن به قلوبكم وما الناصر إلا من عند الله إن الله عزيز حكيم، إذ يغشيكم النعاس أمنة منه وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به ويذهب عنكم رجز الشيطان وليربط على قلوبكم ويثبت به الأقدام، إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان) [الأنفال الآيات 5 – 12]، ولمن أراد المزيد فعليه بقراءة السورة كلها وعدد آياتها 75 آية .

فهي معركة خاضها المسلمون بقرار إلهي، وليست مجرد معركة، خطط لها المسلمون وخاضوها، ولو كان الأمر إليهم لما خاضوها، لأنهم شعروا بقلة العدد والعدة أمام قوة قريش، بعدما فلتت منهم قافلة أبي سفيان، التي أرادوا أن يقطعوا عليها الطريق، ففضلوا عدم الخروج أو تثاقلوا وأبطأ بهم تحمسهم لخوض المعركة، فنبههم الله إلى أمرين.

الأمر الأول: أن مثل هذه المعركة ينبغي أن تستحضر فيها العزائم وليس الرخص، لأن القافلة التي خرجوا إليها، ما هي إلا شرارة لخوض المعركة وليست هي المقصودة بالأصل، لا سيما أن قريش بعدما علمت بفعل المسلمين ذاك، فإنها لا يمكن أن تترك الأمر يمر هكذا من غير رد فعل رادع، وإنما أقل ما ستقوم به هو التعبئة لمعركة تصفي بها الحساب مع المسلمين، ومن ثم فعليهم أن ينظروا إلى الأمر على أنه قاطع لدابر الكافرين، الذين استضعفوهم وأخرجوهم من ديارهم، وليس مجرد قطع طريق على قافلة فلتت منهم، ولا مجرد نظر في مرجحات ساقتهم إلى أن يودُّوا أن تكون غير ذات الشوكة لهم، أي السهلة والبسيطة وغير المكلفة.

الأمر الثاني: أن المسلمين الآن في موقع مصيري هام، ليس بعده إلا الفناء، كما جاء على لسان الرسول صلى الله عليه وسلم عندما كان يدعو ربه قائلا “إن تهلك هذه العصابة لن تعبد”، أن هؤلاء الموحدين الوحيدين على وجه الأرض لا يوجد غيرهم، وهم النخبة المعول عليها في نصرة الإسلام، فقد خرجوا من ديارهم انتصارا لهذه الدعوة وتحملوا كل الصعاب والمتاعب في سبيل ذلك، فإن هلكت فلن يعبد الله، وعليه وجب عليهم أن يتعاملوا مع هذه الواقعة كواقعة مصيرية للإسلام والمسلمين.

فتفاعل الصحابة رضي الله عنهم مع هذه المعاني، (ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين، ليحق الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون)، وتناسوا جميع المرجحات التي تشدهم إلى الأرض، فتجاهلوا أن عددهم كان 314 مجاهد، مقابل جيش من 3 آلاف مقاتل مشرك، وفارق العدة، من سهام وسيوف وإبل وخيول ومؤونة..إلخ،

وانطلقوا لا يذكرون إلا ما وجب عليهم في هذا الموقف، وهو أنهم أصحاب رسالة تهم كل العالم، ومطلوب منهم أن يبذلوا كل ما يملكون، ويتفننون في إيجاد ما لا يملكون من أسباب النصر، فاستعانوا بالمتخصصين في إدارة المعارك، والتخطيط الاستراتيجي، واستعملوا جميع الخطط المساعدة، الاستخباراتية والأمنية، واستعانوا بجميع العلوم، العسكرية والاقتصادية في الإحصاء والاستهلاك والبيئة؛ بل استعملوا سلاح الماء الذي جعل منه الله كل شيء حي.

وبعدما وفروا جميع أسباب النصر العسكري وغيره، توجهوا إلى الله بالدعاء، وعلى رأس الداعين فيهم سيد الخلق محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأن المعركة في النهاية هي بين الله الذي حمل رسالته محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وبين كفار قريش الذين ناصبوا المؤمنين العداء وحرَّشوا عليهم ومنعوا عنهم ومنعوهم ومنعوا الناس من الوصول إليهم، وهذا ناهيك عن منعهم له من البيت الحرام الذي لا يزال بيد قريش التي حشته بآلهتها الكاذبة -360 إلاه- هو قلب هذه الدعوة، وهي رسالة التوحيد.

ولذلك كان التأييد الإلهي بأمور غير معهودة، بحيث قاتلت مع المؤمنين الملائكة، وانتصروا وكسرت شوكة قريش، ومن ثم تقرر أن أهل بدر ليسوا كغيرهم من الناس، مهما صدر منهم من أخطاء أو ما بدا من تقصير من بعضهم، فهم بشر ولكنهم ليسوا كغيرهم من البشر، إنهم اقتحموا معركة طاعة لله، وعصيانا لأنفسهم، فهم ما كانوا يريدون الخروج، والله أرادهم مجاهدين في سبيله، وهو خروج بطبيعة الحال، ليس مجرد تظاهر بالطاعة، وإنما خروج بالعزم على الانتصار، فلم يرو عن أحد منهم انه تهاون في الأمر رآه سببا في النصر، أو احتج بالوعد الإلهي، وإنما ذهبوا في تحضيراتهم للمعركة، تحضيرات أناس أرادوا خوض معركة، ويعرفون موازين القوة غير المتساوية، ومصرّون على خوضها والانتصار فيها، ومن ثم أجهدوا أنفسهم في الاستنصار على العدو بكل الوسائل.

لقد أضحت معركة بدر معلما، على مستوى إيماني لم يعرفه التاريخ من قبل ومن بعد.

صحيح أن الإيمان واحد، ومجتمع الصحابة منهم ومن غيرهم، هو أفضل المجتمعات على الإطلاق، ولكن مجموعة بدر كانت أفضل الصحابة، والأئمة الأربعة الراشدون كانوا أكثر فضلا، وعليه يمكن أن تعتبر هي المقياس الحقيقي للفاعلية الاجتماعية، التي تحدث التغيير في المجتمعات.

إن أصحاب المشاريع الجادين، في تفاعلهم مع الواقع، يشعرون أن لهم رسالة وعلى عواتقهم قضية، عليهم أن ينتصروا لها بجميع الوسائل، وهي في أذهانهم واضحة، وضوح الشمس في رابعة النهار، فقضية التوحيد ركن ركين، والجهاد والاجتهاد في سبيل هذا الركن لا جدال فيها، وعلاقة هذه الرسالة بالبيت الذي تهمين عليه طغمة الشرك العاتية واضحة أيضا. والذين لم يريدوا الخروج إلى المعركة، اجتهادا منهم، باعتبار أنهم خرجوا من أجل القافلة، والقافلة فلتت منهم، فإذن ما الفائدة من خوض معركة غير متكافئة العدد والعدة، ولكنهم بمجرد ما علموا أن القرار إلهي، حسم الموضوع لصالح خوضها وكان الانتصار؛ لأن وضوح الرؤية هنا غير قابل لتوضيح أكثر، وهو أن الله يريد أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين.

لكل قضية أو عمل يقوم به صاحب المشروع يعد مقدمات، لما يترتب عن تلك القضية أو ذلك العمل من نتائج، قد تكون هذه النتائج غايات مقصودة، أو نتائج لمقدمات ينبغي الاستعداد إليها وخوضها، فغزوة بدر الكبرى رغم أنها تبدو وكأنها معركة لها علاقة عضوية بالقافلة، أي أن القافلة لو لم تفلت لما كانت الغزوة، بينما الحقيقة التي خضعت لها قوى المجتمع المسلم يومها هي أن المعركة كانت واقعة لا محالة، حتى لو ضفروا بالقافلة؛ لان إمكانات المسلمين يومها لا تسمح لهم بخوض المعارك، وهذا يغري قريش التي لا تزال تنظر إلى المسلمين على أنهم ضعاف وفقراء ويمكن التغلب عليهم لا سيما عندما يكونون هم الذين بدأوا. فالغزوة إذن نتيجة ظاهرة ولكنها في الواقع هي مقدمة لما بعدها، وكذلك يفعل الإستراتيجيون دائما في تعاملهم مع خصومهم وأعدائهم.

ميزان القوة عند أهل المشاريع الجادة وأصحاب القضايا العادلة والحق المستلب، تتراوح ما بين الـ10 بالمائة إلى الـ50 بالمائة من مجموع قوة الخصم والعدو.

أي عندما تكون قوات العدو 100 فالمفترض في صاحب الحق ألا تقل قوته عن الـ 10 على الأقل، كما قال الله تعالى (إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين، وإن تكن منكم مائة يغلبوا ألفا من الذين كفروا)، ولكن قد يصيب صاحب الحق ضعفا ووهنا، فإن أقل ما ينبغي أن يكون عليه هو أن تكون الـ 50 مقابل 100، أي واحد من أصحاب القضايا العادلة مقابل أثنين من المعتدين (الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا  فإن تكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين، وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله والله مع الصابرين، أما نسبة القيادات الرئيسية في الجتمعات، فهي ما بين 1 إلى 3 بالمائة من المجتمع او من مجموع أصحاب القضية، كما يقول الخبراء، يقول الرسول صلى الله علية وسلم “الناس كإبل مائة لا تكاد تجد فيها راحلة”، والراحلة هي من الإبل ولكنها تمتاز على غيرها بالقدرة على حمل الأثقال وقطع المسافات الطويلة.

مقالات ذات صلة