الرأي

من ينقذ الفرانكفونية… من الصين؟!

ح.م

عُثر في مذكرات أسفار أينشتاين خلال 1922-1923، نشرتها جامعة برينستن الأمريكية قبل شهرين، ما يثبت أنه كان عنصريًا حتى النخاع تجاه الصينيين، وهذا رغم تعاطفه مع الزنوج ذوي الأصول الإفريقية، حيث كتب آنذاك ما لم يكن يعتقد بأنه سيصل إلى قرائه : “سيكون من الخسارة حقا أن يحلّ هؤلاء الصينيون محلّ جميع الأجناس الأخرى. بالنسبة لأمثالنا، فمجرد التفكير في هذا الأمر محزن بشكل لا يوصف… حتى الأطفال [الصينيون] هم بلا روح، ويبدو عليهم ضيق الأفق”. إن تخوّف أينشتاين من الصينيين قبل قرن لا يختلف كثيرا عن تخوّف الفرانكفونية منهم اليوم!!

مرامي الفرانكفونية

ظهر مفهوم “الفرانكفونية” عام 1880 في كتاب الفرنسي أونسيم روكليس Reclus (1837-1916). وكان يعني به الأفراد والبلدان الناطقة بالفرنسية. وكان الرئيس السينغالي سنغور (1906-2001) أديبا وشاعرا باللغة الفرنسة، ومن الداعين إلى تكوين “قطب” للغة الفرنسية. ومما قاله عام 1962 أن الفرانكفونية هي “الإنسانية الكاملة التي تُنسج حول الأرض”، وأنها “وُلدت من أنقاض الاستعمار”.
وفي عام 1970 أنشئت هيئة تلتفّ حول اللغة الفرنسية سُميت “المنظمة العالمية للفرانكفونية”. لكنها توسعت بعد ذلك رؤيتها وصارت تسعى إلى تشكيل كيان يتعاون في شتى الميادين… وإلى “تقارب الشعوب”. وتحت هذا الشعار البرّاق فتحت المنظمة أبوابها لجميع من يريد الانضمام إليها. ومن الدول البعيدة عن اللغة الفرنسية والمنتسبة إلى المنظمة نجد إستونيا وتايلندا والمكسيك وغانا. وكانت المنظمة قد سمحت لدول من هذا القبيل بالانضمام إليها إثر سقوط جدار برلين عام 1990 لأن ألمانيا الموحدة تمثل منافسًا قويا لباريس.
ثم تطوّر مفهوم الفرانكفونية وأصبح يضم تيارين أحدها يركّز على الجانب اللغوي ونشر الفرنسية عبر دول العالم ومختلف هيئاته؛ وأما التيار الثاني فيركّز على بسط النفوذ السياسي والاقتصادي والثقافي والعسكري في العالم. وهذا التيار هو الذي انتصر عندما انضمت بعض دول الخليج إلى المنظمة مثل الإمارات وقطر. وقد سعت السعودية أيضا إلى ذلك في مؤتمر الفرانكفونية الذي عُقد قبل سنتين بمدغشقر ولم يتم فيه البت في انضمامها فأجّلوا معالجة القضية للمؤتمر الموالي الذي سيعقد في أكتوبر القادم بعاصمة أرمينيا. نشير إلى أن الفرنسية ليست لغة رسمية سوى في 32 بلدا من الـ 84 عضوا في المنظمة.
يؤمن تيار متشدد في المنظمة بأولوية اللغة الفرنسية والبعد الثقافي الذي لا يمكن فصله عن البعد الإيديولوجي. ويتحدث أصحابه عن “الهوية الفرانكفونية ضمن العولمة”، ويرون أنه إذا ما توسّع الفضاء الفرانكفوني بدون مراعاة هذه الهوية فسيذوب في مفهوم العولمة. ولا شك أن بعض المعادين للفرانكفونية في العالم المتقدم يدعمون انضمام دول بعيدة عن الثقافة الفرنسية لكسر شوكة المنظمة.
والواقع أن الفرانكفونية تريد -عبر انضمام بعض الدول، كدول الخليج إلى المنظمة- تنفيذ إستراتيجية توسع واستنزاف أموال وكسب قوة التأثير على الصعيد الدولي. ومن المعروف أن المنظمة كان لها موقف متحفظ حول العولمة لأنها ترى فيها تهديدا قويا. لكنها تبرر موقفها بأن العولمة ليست دائما في صالح البشرية مدّعيةً أن الثقافة ليست “سلعة تُسوَّقُ”… رغم أن المنظمة تسوّق ثقافتها بدعوى حماية الثقافات الأخرى! لو كان هذا التبرير صحيحا لما عملت الفرانكفونية على استبدال لغات الشعوب الأخرى (المستعمرات القديمة) باللغة الفرنسية!
وفي هذا السياق، قال ممثل المغرب في اجتماع للمنظمة عام 2007، دفاعا عن الانفتاح : “إن الفرانكفونية تحتاج إلى نفس جديد” موضحًا أن الركيزة اللغوية التي شُيّدت عليها صارت الآن عقبة أمام توسيع الفضاء الفرانكفوني تتعارض مع مصالحها.

رأي لورنت ألكسندر

لورنت ألكسندر Alexandre طبيب ورجل أعمال وكاتب فرنسي معروف يهتم كثيرا بالذكاء الاصطناعي. وقد كتب قبل بضعة شهور مقالا عنوانه “سدريك فيلاني Villani يستطيع إنقاذ الفرانكفونية” منتقدا سياسة بلاده قائلا : “إذا تمادى غيابنا في المجال الرقمي فإفريقيا ستتكلم اللغة الصينية. غَدُنا سيكون مذهلا”. وفيلاني هو الرياضياتي الفائز بميدالية فيلدز، والشهير بقدرته على التواصل، وهذا ما جعله يدخل المعترك السياسي عبر حزب الرئيس ماكرون ويتقرب منه. يقول ألكسندر : “إذا لم يقنع سدريك فيلاني الرئيس ماكرون بخطورة تأخرنا فإن الفرانكفونية ستنحصر عام 2100 في فرنسا ووالونيا (جنوب بلجيكا) وجنيف ومونتريال”.
كما يرى ألكسندر أن الفرانكفونية جد مهددة بسبب ضعف فرنسا في المجال الرقمي والذكاء الاصطناعي، بينما عمالقة مؤسسات التكنولوجيا والاتصالات تزحف نحو غزو العالم بدءا بإفريقيا وأوروبا. ولا يعيب ألكسندر هذا التأخر على فرنسا وحدها بل يعيبه أيضا على أوروبا ملاحظًا أن هذه القارة كانت في المقدمة فتقهقرت عقودًا إلى الوراء أمام عمالقة الاتصلات الأمريكية المعروفة بالرمز “غافا” GAFA أو “غافام” GAFAM (وهي الحروف الأولى لمؤسسات غوغل وآبل وفيسبوك وأمزون وميكروسوفت)، وكذا مثيلتها الصينية المعروفة بالرمز “باتكس” BATX والتي تشمل أيضا 4 مؤسسات.
ويرى الكاتب أن إمبراطورية “غافام” تغطي القارة الأميركية بأكملها وأوروبا وجزءا من آسيا وأستراليا. أما إمبراطورية “باتكس” الصينية فهيمنت على الصين وتوغلت في أوروبا وتتجه الآن نحو غزو إفريقيا التي ستضم في نهاية القرن قرابة 5 ملايير نسمة!
وبهذا الصدد يلاحظ ألكسندر أن مستقبل اللغة الفرنسية والفرانكفونية هو في إفريقيا، وضرب مثلا بالعاصمة الكنغولية التي تمثل أكبر مدينة فرانكفونية في العالم بعد باريس. كما أشار إلى أن الكونغو وحده سيأوي بعد 80 سنة 200 مليون فرانكفوني!
وقبل بضعة أيام كتب ألكسندر مقالا آخر تحت عنوان “في عام 1980 كان المغرب أكثر ثراء من الصين بخمس مرات” قدم فيه مقارنات مدهشة أثبت فيها أن الصين صارت قوة عظمى في المجال العلمي لأنها استثمرت في التربية والعلوم والذكاء الاصطناعي. وأبدى تخوفه الكبير من غزو الصين للفضاء الفرانكفوني الإفريقي وغيره. أما رجال الأعمال الغربيون فهم متخوفون من التقدم الصيني في تطبيق الذكاء الاصطناعي في المجال المالي لأنه يهدد مؤسساتهم المالية كما يهدد الفرانكفونية.
وبعيدا عن صراع الصين والفرانكفونية، نجد وزير الطاقة الأسبق شكيب خليل يرد عن سؤال بالقول إن كل الدول الناجحة اتجهت نحو اللغة الانكليزية،‮ ‬وكل الدول التي‮ ‬فشلت اتجهت نحو اللغة الفرنسية مؤكدًا على ضرورة تعلم الانكليزية لنكون من البلدان الناجحة. لا نعتقد أن هذا الرأي يخلو من الصحة.

مقالات ذات صلة