-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

مواسم العبث

الشروق أونلاين
  • 3720
  • 0
مواسم العبث

قد يكون من الصدف أن تولد فلسفة العبث في الجزائر على يد الكاتب ألبير كاميه الذي صنع من هذه الفلسفة روائعه مثل “الغريب والطاعون” بنكهة جزائرية مكنته من أن يحصل على جائزة نوبل للآداب عام 1957…

ولست أدري كيف تحولت فلسفة العبث الأدبي لدى آلبير كاميه على نظام حياة عملية يمارسه الجميع عندنا في مواقع حساسة وجادة ومصيرية.. وما تقدمه محكمة الجنايات في مختلف المجالس في دورتها الحالية من نماذج لمتهمين وضحايا لا يمكن سوى تصنيفه ضمن هذا النظام الحياتي العبثي الذي جعل بعض البارونات عندنا يتعاملون مع الشعب ومع السلطة بعبث.. وهل قضية حسان فلاح في عنابة الذي بلغت مديونيته لدى مصلحة الضرائب أزيد عن ألف ومئتي مليار يمكن أن نصفها  بمفردة غير العبث؟ وهل حسان فلاح وحده المتهم في هاته القضية ونحن نعلم أن مصالح الضرائب قد جرّت الآلاف من الشباب إلى المحاكم تطالبهم ببعض الملايين ولم تفعل أمام ما إن مفاتيحه لتنوء بالعصبة أولي القوة؟.. وهل امتلاك بارون كهل من وهران لخمس عشرة سيارة من نوع هامر التي لا يحلم بامتلاكها حتى الأمراء يمكن أن نصفه بمفردة غير العبث؟..

وهل هذا الشاب وحده المتهم ونحن نعلم أن مصالح الجمارك قد جرّت الآلاف من الشباب على المحاكم على خلفية استيرادهم للمواد الغذائية أو الشيفون، بينما تدخل هاته السيارات الفاخرة التي تزيد أثمانها عن أسعار الفيلات ليكون مجراها ومرساها في شوارعنا التي تعج بالجامعيين البطالين والأعزاء الفقراء؟

لقد بلغت جرأة الناس على القانون درجة العبث فعلا، فعندما يحوّل عابث مؤسسة وطنية إلى لعبة يعبث بها طوال سنوات ويختفي في سويسرا بعد أن يعبث بالمال العام، وعندما يبني الخليفة إمبراطورية تطير في السماء وتنهب في الأرض، وعندما نكتشف أن أوراسكوم التي تباهت بعشرات الملايين من المشتركين واستثمرت في الإسمنت وفي الفنادق وفي الإعلام لا تدفع متسحقاتها لدى الضرائب ويدفع المعلم والممرض وجامع القمامة، وعندما يدخل القصّر والنساء والطلبة هذا العالم العبثي فإننا نخشى أن نكون قد بنينا إمبراطورية العبث التي أسس لها كامي فلسفته منذ أزيد عن نصف قرن، والتي يستحيل سقوطها ولو بعد قرون وأجيال.

إتفقنا جميعا على أن ما منّ الله به علينا من خيرات في باطن الأرض وأعماق البحار ومن السحاب ومن التعداد البشري ما يجعلنا بلد الجد الذي أعطاه الله الماضي والحاضر التاريخي والجغرافي الموصل إلى مستقبل جاد ومضمون.. واتفقنا على أننا مازلنا نتعامل مع هذا الشريط الساحلي الممتد من غرب القارة إلى شرقها بكثير من العبث إلى درجة أننا نستورد السمك من بلدان لا بحار فيها، ومع حقول النفط بكثير من العبث إلى درجة أن سعر البنزين عندنا أغلى من سعره في بلدان تستورده من عندنا، ومع ثروة الشباب بكثير من العبث إلى درجة أن الشيوخ في أوربا يصنعون القوارب والشباب عندنا يبحرون فيها نحو المجهول.

ألستم معنا في أن معادلة البلد الثري جدا والشعب الفقير جدا هو العبث بعينه؟ ألستم معنا في أن مجرد الفشل في استثمار الثورات التاريخية لنهضة فكرية والثروات الجغرافية الباطنية والسطحية لنهضة تكنولوجية وحل معضلة الأزمات هو قمة العبث.

للأسف البطال يذبح حاضره ومستقبله بعبث، والعامل يسيّر وقته بعبث، والمسؤول يتخذ قراراته بعبث… منذ قليل قلنا أننا نخشى أن نكون قد بنينا إمبراطورية العبث والآن دعونا نعترف بأنها قائمة ببنيان مرصوص يشد بعضه.. بعضا.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!