-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

موسم حرق الكتب !!

التهامي مجوري
  • 1353
  • 0
موسم حرق الكتب !!

عندما سجن سيد قطب رحمه الله في عهد جمال عبد الناصر، وكان له عقد مع دار نشر تعاقدت معه على أن يهيء لها تفسيرا على طريقة ما كان ينشره في جريدة الرسالة لأحمد حسن الزيات، تحت عنوان “في ظلال القرآن”، على أن يحضر لها كل مدة زمنية معينة جزءا يخرج تباعا بنفس العنوانك “في ظلال القرآن”.

 ولكن لما سجن سيد، تضررت الدار من هذا السجن؛ لأن الكاتب السجين لا يستطيع أن يوفي بالتزامه تجاه الناشر، فرفع الناشر دعوى تظلم، لا أدري ضد الكاتب أم ضد الإدارة، بسبب سجن الكاتب، فحكم على السجين الكاتب بالوفاء بما عليه من واجب تجاه الناشر، فعين النظام يومها مراقبا على ما كان يكتب سيد قطب، وتم نشر “في ظلال القرآن” كما أراد له الناشر والكاتب معا، ومن لطف الله بهذا الكتاب أن الذي كلف بمراقبته قبل نشره هو الشيخ محمد الغزالي رحمه الله، ويحكى عنه، أنه لم يحذف كلمة مما كتب في الظلال، إلا مقطوعة من تعليقات على قصة أصحاب الأخدود، كان فيها تعريض واضح بالنظام يومها، حذفها الشيخ، وهي منشورة في كتاب معالم في الطريق، الذي كتبه سيد وحوكم بسببه وأعدم.

وفي نكبة 1967، أجمعت الأمة –بعد نقاش طويل- على أن تلك النكبة كانت بسبب الأزمة الفكرية التي تمر بها الأمة، فقام التيار القومي العروبي بمراجعة عميقة لمنهجه، ووقع تحول هام في ساحات عريضة بين النخب العربية: القومية والإسلامية؛ بل واليسارية الماركسية أيضا.

وإثر اغتيال العالم الجليل الدكتور الشيخ حسين الذهبي وزير الأوقاف المصري، الذي قتلته “جماعة المسلمين” التي أطلق عليها فيما بعد الإعلام المصري إسم “جماعة التكفير والهجرة”، وقعت عمليات تفتيش وتمشيط واسعة النطاق، وقعت يد الأمن المصري على مخطوطين هامين، مخطوط للشيخ حسين الذهبي، يقال إنه مشروع كان يريد أن يتقدم به إلى السلطة بوصفه وزيرا للأوقاف، يهدف إلى ردم الهوة التي بين الخطاب الديني المسجدي الأزهري، والمنظومة الاجتماعية الثقافية السياسية التي تحكم البلاد، فالشيخ الوزير لم يرد للمجتمع المصري أن يسمع من شيخ الأزهر كلاما، يكذبه تجاهل السلطة لما يأمر به هذا الشيخ أو ذاك أو ينهى عنه. ومخطوط ثاني بعنوان “الفريضة الغائبة”، بقلم عبد السلام فرج، الذي هو واحد من التيار الجهادي في الحركة الإسلامية، فتقدم الأمن بهذا الكتيب للأزهر وطلب منه ان يرد عليه، وهو عبارة عن كتيب صغير، جمع فيه صاحبه النصوص الداعية للجهاد، آيات وأحاديث ونصوص لابن تيمية رحمه الله، واعتبر أن الجهاد هو “الفريضة الغائبة” في المجتمع الإسلامي.

تذكرت هذه الوقائع التي مضى عليها حوالي نصف قرن، وانا اتابع مفاجآت النظام المصري و”مفاجعاته”، بإقدامه على الأمر بحرق كتب سيد قطب والشيخ يوسف القرضاوي والإمام الشهيد حسن البنا، ومحاولته للنيل من علماء ومفكرين ودعاة آخرين من معارضي النظام، وإحالتهم على القضاء أو على التقاعد، امثال محمد عمارة وحسن الشافعي. وقبل هذه الأوامر بمدة تابعنا شخصا آخر من “المتنورين”، يدعو إلى حرق كتب الإمام محمد بن إسماعيل البخاري، وشيخ الإسلام عبد الحليم بن تيمية، وقبل ذلك دعا الرئيس عبد الفتاح السيسي علماءَ الأزهر إلى “تخليص الإسلام من النصوص التي اتخذت طابع القداسة وأصبحت تكبّل العقل وتمنعه من التطوّر” ووضع “فقهٍ جديد يساير حقائق العصر “….

لم يعرف التاريخ أن حرق الكتب ومحاربة العلماء وسيلة ناجعة في محاربة الأفكار وحسم الصراع بين المتخاصمين، وإنما ما عرفه التاريخ، هو ان التضييق على العلماء وحرق كتبهم، كان على يد الجهلة والطواغيت الذين يشعرون بأنهم آلهة فوق الأرض، أو بإيعاز من أقران حاسدين يؤيدون قتل خصومهم وقتل أفكارهم، بالاغتيال وحرق الكتب والسجن والتعذيب، وكلتا الجهتين لم يكتب لها النجاح في أي مرحلة من مراحل التاريخ؛ لأن الأفكار لا يقضى عليها إلا بالأفكار، ولأن الفكرة إذا ولدت –بقطع النظر عن صوابها وخطئها-، فإنها لا تبقى حبيسة صدر صاحبها، فتموت بموته، أو حبيسة كتاب تتلف بحرقه، وإنما تلتقطها الأجيال، رواية ومدارسة ومناقشة وتبنيا؛ بل وبالنقد أيضا، كما قال الشاعر:

إذا أراد الله نشر فضيلة طويت                أتاح لها لسان حسود

كنا نتمنى لدعاة حرق الكتب، سواء من قبل “المتألهين” من طواغيت، الأنظمة الاستبدادية، أو من قبل “المتنورين”، أن ينزلوا ميادين النقاش والحوار، لمناقشة الحجة بالحجة، لا ان يحصوا الكتب التي لا تتوافق مع أهوائهم، ويأمرون بحرقها، أو يقطعون عليها الطريق في المعارض أو تصادر من الأسواق؛ لأننا نعتقد اعتقادا جازما أن الأفكار لا تقاوم إلا بالأفكار. وتمنيت شخصيا لو أن الذي دعا إلى حرق صحيح البخاري، بحجة ان فيه أحاديث ضعيفة حماية للسنة، استثمر العلوم الحديثة في حماية السنة إن كان صادقا في دعواه لحماية السنة.

لقد توصل علماء الألكترونيك، في معالجة الأصوات، أن الأصوات التي ظهرت في العالم، كلها الآن مبثوثة في الكون ذرات في الهواء…، وإذا صح هذا الاكتشاف، فإن صوت النبي صلى الله عليه وسلم الآن موجود ذرات موزعة في الهواء، والبحث عنها ممكن. أليس من الأجدى علميا، ان نترك ما هو كائن، ونرتقي به إلى الأفضل وفق ما توصل إليه العلم؟ بلى، ولكن القوم كما يقول المثل الشعبي الجزائري “الذباح عينه في القورزي”، غنهم يريدون النيل من البخاري، وليس الدفاع السنة النبوية.

إن محاربة ابن تيمية وسيد قطب والبنا وغيرهم، ليست جديدة، وإنما هي قديمة قدم الصراع بين الحق والباطل، وقدم الصراع بين السنة والبدعة، وقدم الخصومات السياسية والثقافية، بين المتنازعين من فئات الأمة. ففي سنة 1979 كنت في دمشق، ومن بين ما كنت استغرب منه لمجرد سماعه يومها في مناقشاتي مع أقراني من الشاميين، ان شيخ الإسلام ابن تيمية، تتلمذ على يد يهودي، وبحكم عقليتي النقدية، لم استطع هضم هذه الفكرة، فعكفت على قراءة ما كتب ابن تيمية، ولم ألاحظ شيئا خارج المتعارف عليه بين المسلمين، وما زلت أقرأ ابن تيمية حتى اكتشفت، العالم الدارس المجتهد، الذي كانت له جولات في كل فن من فنون المعرفة، في الفقه والفكر والكلام والتصوف والفكر السياسي…إلخ، اما من الجانب الفقهي، فقد كان فقيها حنبليا..، فالرجل موسوعي، كتب في المنطق، ونقد المنطق الأرسطي، وكتب في التصوف وسماه علم السلوك، وكتب في “السياسة الشرعية وإصلاح الراعي والرعية”، ومن يقرأ مجموع الفتاوى، يخرج بمنظومات في العلوم الإنسانية راقية، مصدرها الوحي والتجربة الإنسانية، ولكنه ابتلي بأتباع وخصوم، دون مستوى الموافقة والمعارضة، فالذين ادعوا موافقته والانتصار إليه، انتقوا من أقواله وآرائه ما يوافق أهواءهم، والذين عارضوه، عارضوه انتقاما من خصومهم، فلم يقرأوا له إلا ما انتقى خصومهم من مواقف وآراء، وهو بطبيعة الحال كانت له آراء واجتهادات، بنت اللحظة والواقع الذي كان يعيش، لا سيما وقد كان في مرحلة بلغت فيها الأمة من الضعف والتدني والابتداع في الدين، ما لم تشهده الأمة من قبل.. فواجه الجهال والجهل، وقاوم المستبدين والاستبداد، وجاهد الغزاة…إلخ.

وما وقع لابن تيمية وقع لسيد قطب والبنا، ووقع لغيرهم ممن تصدوا لقضايا الأمة ونقد واقعها المزري، ومن لم يسجن أو يقتل أو تحرق كتبه، اتهم بالعمالة أو في أحسن الأحوال اتهم بالتأثر بالغرب، مثلما اتهم الأمير عبد القادر ومحمد عبده وجمال الدين الأفغاني بالماسونية، واتهم مالك بن نبي بالتغريب، والشيخ محمد الغزالي بالاعتزال…إلخ.

ولنا عودة.. للمواقف من الكتاب خوفا منه وخوفا عليه..، بحول الله تعالى.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
  • بدون اسم

    شكرا أستاذ