الرأي

مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ

يقول الله تعالى: ((وَابْتَغِ فِيمَا آَتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآَخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا)) (القصص، 77).

إنّ العبادة في الإسلام تجمع بين أشواق الرّوح ومطالب الجسد، كما أنّها ليست إيغالا في عالم المادّة وتردٍّ في مهاوي الحيوانية البغيضة. وقد وردت نصوص كثيرة من الكتاب والسنّة تنهى عن التشدّد والغلوّ، ومجاوزة الحدّ في العبادة، وتأمر بمراعاة الضّعف البشري، وبيان أنّ نفي الحرج والتّضييق يعدّ أصلا من أصول الشّريعة المرعية.

يقول الله تعالى: ((مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُون)) (المائدة، 6)، وقال سبحانه في بيان حقيقة هذا الدّين وروحه: ((وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ)) (الحجّ، 78).

وقد تبيّن لي بالتأمل في النصّين أنّ كلمة “حرج” جاءت نكرة مجرورة مسبوقة بالنّفي، والقاعدة في مثل هذا أنّ حرف الجرّ (مِن) هو صلة وتوكيد جيء به لاستغراق معنى النّفي، أي أنّ الحرج في هذا الدّين منفيّ بإطلاق، في صغير أمور الشّرع وكبيرها. 

ومن القواعد المقرّرة عند علماء الشّريعة قولهم “المشقّة تجلب التّيسير”، وقولهم “إذا ضاق الأمر اتّسع”، وقولهم “لا تكليف إلا بمقدور”، وهي قواعد مستمدّة من الاستقراء التامّ لنصوص الشّريعة فعلا وتركا.

وقد كان النبيّ -صلّى الله عليه وسلم- بسنّته الفعلية والقولية ينهى أشدّ النّهي عن مجاوزة التوسّط والاعتدال إلى التشدّد والغلوّ والرّهبنة، فقال: “لا تشدّدوا على أنفسكم فيشدّد الله عليكم، فإنّ قوما شدّدوا على أنفسهم فشدّد الله عليهم، فتلك بقاياهم في الصوامع والديارات، رهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم” (رواه أبو داود بإسناد يحتمل التّحسين)، ونهى -عليه الصلاة والسّلام- بعض الصّحابة الذين كانوا يريدون التّشديد في العبادة والتعمّق فيها وتحميل أنفسهم مشقّة تخالف وسطية هذا الدّين وسماحته في التعبّد، وقصّته مع عبد الله  بن عمرو مشهورة رواها البخاري في صحيحه، وقد قرّر الإمام الشاطبي “أنّ النّهي عن التّشديد شهير في الشّريعة بحيث صار أصلا فيها قطعيا”.

مقالات ذات صلة