الرأي

هذا ما كشفته مسابقة الدكتوراه

ح.م

أصابت وزارة التعليم العالي الهدف بدقة متناهية في هذه المرة وفي هذا الملف العلمي والوطني المتميز وفي هذا الظرف السياسي والاجتماعي والأمني الحساس جدا، عندما فتحت مسابقة الدكتوراة لكل من يريدها سواءً أكان قادرا عليها، أم من العاجزين والجِفانِ العُطْلِ الذين يتمنون على الله الأماني، وبعبارة أوضح وأدقّ وأصوب فتحتها لكل من هب ودب، وحتى لمن لا يقدر حتى على الدبيب بفقرة أو فقرتين رديئتي الخط والأسلوب والأفكار على ورقات الإجابة التي تكلف الواحدة فيما أعتقد عشرين دينارا جزائريا.

لم يكن تصرف الوزارة عفويا أو ساذجا غير مدروس عندما يسَّرتها ووضعتها كالماء والهواء والكلإ والنار للجميع.. الذي بلغ تعدادُهم قرابة شعب أو سكان دولة كدولة الفاتيكان أو سورينام أو ساوتومي وبرنسيبي أو جزر القمر..).. ولها من وراء ذلك مقاصد خفيّة وعلنية، وغايات واضحة ومبطنة، وأهداف كثيرة قريبة وبعيدة ومختلفة على جميع الأصعدة السياسية والاجتماعية والتربوية والعلمية والأخلاقية والمهنية والصحية والنفسية وحتى الاقتصادية..

وقد اعتقد الكثيرُ من المراقبين لمجريات وقوانين ومشاريع وخطط تسيير وزارة التعليم العالي -من أمثالي- للكثير من الملفات الحساسة والشائكة وعلى رأسها هذا الملف، أن ذلك عائدٌ بالأساس لشراء السلم والأمن والصمت الاجتماعي في ظل تنامي سعار الحراك غير المبرَّر والمندفع من شحن الطابور الخامس، وفي ظل الإصلاحات الحقيقية والمرحلية المدروسة التي تقوم بها حكومة السيد عبد العزيز جراد أعانه الله والصالحون من الوطنيين الجزائريين، وتحت مراقبة ورعاية وبصر رئاسة الرئيس القدير عبد المجيد تبون يحفظه الله ويرعاه.. وهذا –والله يعرفني- من باب الدعاء لأولي الأمر، وليس من باب التزلف والتقرُّب.

والحقيقة أن المتمعن في تسيير هذا الملف من بدايته حتى تاريخ بداية إجراء المسابقات يتبدى له الخفي والظاهر، وسيكتشف أن وراء الأكمة ما وراءها، إذْ أرادت الوزارة أن تُبقي الدكتوراة للصنفين (أ و ب)، وهو الرأي الصواب والحق عندي كأستاذ جامعي له خبرة وتجربة حقيقية وواقعية وعلمية كان قد مضى عليها أكثر أربعة عقود دعوية وعلمية وبحثية صادقة وفاعلة ومنتِجة للعلم والمعرفة بكافة أشكالها الحية والصلبة والإلكترونية (1977-2021م)، ولكن وللأسف الشديد وككل مرة فقد تحركت فيالق الطابور الخامس الخفية من أحد الصفوف المخترَقة من قبل أزلامه وأعوانه وبيادقه المتربصين بالجزائر ليثير الغبار والأتربة والزوابع ويصطنع كعادته مشكلة وأزمة للدولة الجزائرية التي ألمس منها اليوم فعليا الشروع في عملية التجديد والتغيير والإصلاح البطيئة، ولكنها محمودة وفق سنن ونواميس التغيير الحقيقي والحضاري الفعّال.. ليثيروا ملف الترشح في مسابقة الدكتوراة، وينفخوا في سَحَرِ ونحْرِ طلبتنا الطيبين، الباحثين عن منصب عمل مريح، يضمن لهم راتبا محترما ومستقبلا آمنا في الحياة المادية الكريمة.

وبعد أن فشل ملفُّ الترشح للدكتوراه بامتياز، تحرَّكوا مجددا وحرّكوا بكل مكر وخبثٍ ودهاء وحقد على معالم هويتنا الجزائرية الأصيلة هذه الأيام أحد طوابيرهم الطاغية في الأرض الجزائرية الطاهرة ليردُّوا ويضغطوا على (ملف الذاكرة) ويصير أمرا حتما وواقعا يمكن القبول به وفق الرؤية الفرنسية الطاغية، وهم طابور (كنفدرالية أرباب العمل) وأعوذ بالله من الأرباب، إذْ لا رب سواه سبحانه وتعالى، لتطالب هذه بتحويل عطلة الأسبوع نحو يومي السبت والأحد اليهودي والنصراني عوض يومي الجمعة والسبت، بحجة تراجع الاقتصاد والحركة المالية.. وكأننا لا نعرف من تسبَّب بانهيار الاقتصاد الوطني سوى لصوص الملفات، حيث الأرض والعقار من تراب الأمة الجزائرية، والمال من بنوك الشعب.. وهذا هو استثمار الطابور الخامس الذي عرفناه منذ أكثر من خمسين سنة.. وهكذا في حال فشل هذا المطبّ، فإن أسيادهم يعدون لهم مطبات أخرى قادمة يثيروها في وجه السلطة القائمة، وهكذا دواليك..

وقد تبين للمراقبين أن وزارة التعليم العالي مرّرت هذا الملف مكتفية بأقل البلل والعنتِ بعد عرضه على الخبراء الذين أشاروا عليها بأن العملية ستمرّ على عكس ما يتمنى الطلبة الحالمون بالدكتوراه الهنيئة المريئة ومن يقف وراءهم من أشباح وسفاحي الطابور الخامس.. والحمد فقد أسفرت هذه العملية عن حكمة فتح مسابقة الدكتوراه للجميع، وانكشفت حقيقة الطلاب العلمية والأدبية، وبان فراغُهم وخواؤهم المعرفي والعلمي والمنهجي والثقافي والأسلوبي واللغوي والبحثي.. ولو حدثناكم عن ما وجدنا في تلك الأوراق والإجابات وعن الذين حضروا في تلك القاعات،  لقلنا الكثير، فعددُ الحضور كان محتشما، إذْ القاعة التي بها ستون مقعدا ضمت ستة عشر مشاركا، ولكن لم يحضر منهم سوى أربعة أو خمسة أو ستة على أكثر تقدير في كل قاعة، وغاب الباقي بعد أن كلف الإدارة وطاقمها الكثير من التحضيرات الشاقة جدا..

وأما الأوراق فقد كانت تكشف عن المستوى الهابط الذي عليه أغلب طلبتنا، وعلى سبيل المثال فصنفٌ من الطلبة يسمون أنفسهم (السلفية) قدَّموا أوراقهم فارغة من سؤال حفظ القرآن الذي عليه اثنتا عشرة علامة، لأن شيوخ الفتنة يفتونهم بضرورة العناية بالسنة وإهمال القرآن؟! ولذلك فهم خلوٌ من كلام الله العزيز.. فتبا لمن خلا قلبُه من الذكر الحكيم.. وثمة من قدَّم أوراقا فارغة في المواد الأساسية، ومنهم من قدّم فقرة أو فقرتين فارغتين، ومنهم من قال لي “لم أُحضِّرْ بالشكل الكافي”، ومنهم من قال لي “لم أفهم السؤال”، ومنهم من اعتقد أنها نزهة فقط، وهكذا يضع قرار الوزارة الطلبة أمام أنفسهم والحقيقة والواقع والأمة مجددا؛ أمام مسيرة التكوين الهزيل الذي تعرفه جامعاتنا منذ عقدين من الزمن 2000م 2021م وبالأخص منذ عقد زمن (آل آم دي) الحارق.

ولكن السؤال الخطير عندي مفاده: لماذا تجرّأ هؤلاء الستمائة وخمسون ألف ليتوهّموا في أنفسهم بأنهم أهل لاجتياز مسابقة الدكتوراة؟ والجواب خطير وكبير، بل مؤسف ومحبط أيضا، لأنه يقودنا إلى التعرف على واقع الجامعة البائس جدا، وواقع وحالة أساتذتها وأستاذاتها على وجه الخصوص الكئيب علميا، والأسود معرفيا، والهزيل تربويا، والمُجدب إنتاجيا، والمقلق مهنيا، والمُربك اجتماعيا واقتصاديا وحضاريا..

ولا يستطيع أحدٌ أن يخبرنا بالجواب السحري لهذه الجرأة المتأتية من قبل هذا الجيش العرمرم من طلبة الماستر الهزيلة المجترئين على حمى ومقدسات الدكتوراة إلاّ الخبيرُ المطلع على أوضاع الإنتاج العلمي والمعرفي والثقافي والأدبي في الجامعة لأساتذتنا وأستاذتنا، وعلى حال العملية التعليمية والتربوية والمعرفية في الحصص النظرية عموما والحصص التطبيقية على وجه الخصوص، التي تمضي في الحكايات والأقاصيص والسير الذاتية، أو في تكليف الطلاب إنجاز ما يُسمى تجاوزا البحوث، فهل يُعقل أن يُكلف طلبة السنة الأولى من قبل المطبقات بالبحوث وهم لم ينعموا بطعم الجامعة سوى أربعة أسابيع.. وتمضي الحصص والتكوين الفارغ ويتقاضى الفارغون والفارغات الأجور والساعات الإضافية والمردودية وحلقات البحث الكاذبة.. وهكذا يمضي التكوين الجامعي للأسف.. فصورة الأستاذ التافه والأستاذة التافهة هي التي جرّأتْ الطلبة على خوض المغامرة واعتبار أن العملية مجرد نزهة والسلام..

ولعلنا في آخر المقال نتوجه إلى أولي الأمر قائلين لهم ما قاله الشاعر العربي:

هزلت حتى بانت كلاها ** وسامها كل مفلس.

فأصلحوا حال الأستاذ واستقدموا الكفيئين والكفيئات منهم ومنهن واستبعدوا الضعاف منهم يصلح لكم حال الطلبة، ولا يجرؤ على هذا المقام بعدها إلاّ من هو أهلٌ له..  أللهم اشهد أني بلغت.

مقالات ذات صلة