-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

هل انتصرت المقاومة الفلسطينية؟

هل انتصرت المقاومة الفلسطينية؟

هذا السؤال تردِّده دوائر التخذيل والتطبيع والهزيمة النفسية غداة كل حرب جديدة على قطاع غزة، تُبلي فيها المقاومة الفلسطينية الباسلة بلاء الرجال المجاهدين، عبر ملاحم أسطورية مهرَّبة من زمن الصحابة الكرام، دون أن يشتكي أهلها الأشاوس من خيار المواجهة العسكريّة مع العدوّ الصهيوني، بل نراهم ثابتين على النهج في صمود خرافيّ فوق طاقة البشر العاديين، بل إنهم مقتنعون تمامًا بتحقيق النصر مهما كانت التكلفة باهظة.
كلما انتصبت المقاومة في شموخ، من دون اكتراث بفارق ميزان القوى المادي، منافِحةً عن الوطن، خرج من بني جلدتنا مرجفون وآخرون مأجورون ينظرون إلى أعمالها البطوليّة بعين التحقير والعبثيّة، بل يجرّمونها بكل وقاحة، محمّلين إيّاها تداعيات المأساة الفلسطينية، كأنّ واجبها هو تركُ الكيان الصهيوني يرتع فوق المقدسات لاستلاب الأرض وانتهاك العرض.
وفي هذه المعركة الفارقة بالذات “طوفان الأقصى”، يقع إجماع الخبراء على أن معادلة الصراع مع الكيان الإسرائيلي ستتغير الكثير من إحداثياتها الداخلية والإقليمية والدولية، إذ ستشكّل مستقبلاً معلمًا تاريخيًّا في قراءة الأحداث بالمنطقة كلها، لأنّ المواجهة في ظل التطور العسكري للمقاومة تجاوزت ردود الفعل لإثبات الذات الفلسطينية إلى القدرة على الإرباك والاستنزاف.
سيكون من الخطأ الفادح أو الجهل بطبيعة الحروب التحريرية تحليل نتائجها بلغة الأرقام بين الجانبين، أوّلاً لأنّ ثمن الحرية يظل دومًا كبيرًا ومطلوبًا، وثانيًّا لأنّ خصوصية “الدولة” الوظيفية للكيان وطبيعته النفسية اليهوديّة يجعلان من الأرقام نفسها ذات دلالات أعمق بكثير من ظاهرها السطحي.
لو لم تُهزم الحكومة الصهيونية على الأرض في هذه الحرب، وتجد نفسها عاجزة عن التقدم أكثر أمام المقاومة، ما أوقفها العالمُ بكل أجهزته، بدليل أنها فرضت رقابة غير مسبوقة على الإعلام، بمنع الصحافيين من الكشف عن أي معلومات تضر بـ”الأمن القومي”.
وحتى بمنطق الأرقام التي يتخذها المثبِّطون ذريعة، فقد أحصت وزارة صحة الاحتلال 9038 إصابة على كامل مساحة الكيان، بينما أعلن الجيش الصهيوني ارتفاع جنوده القتلى إلى قرابة 400 هالك منذ السابع من أكتوبر المبارك.
أما على الصعيد الاقتصادي، فإنّ الحرب تكلف الكيان 48 مليار دولار خلال العامين الجاري والمقبل، وفق تقرير الشركة الاستشارية “ليدر كابيتال ماركتس”، ستدفع الولاياتُ المتحدة ثلث المبلغ على شكل مساعدات عسكرية، بل يشير “المجلس الاقتصادي الوطني الإسرائيلي” في أحدث تقرير له إلى تكلفة بـ54 مليار دولار.
لكنَّ الأخطرَ من الخسارة الاقتصادية بالنسبة لدولة الاحتلال، هي الهزيمة المعنويّة والأخلاقيّة للاستيطان الصهيوني أمام العالم، جرّاء انتهاك القانون الدولي الإنساني بجرائم الإبادة المخزية في حق الأبرياء الآمنين والأطفال والنساء والمشافي والمدارس، مقابل كسر شوكته العسكرية والاستخباراتية، وبروز المقاومة بشجاعة جنودها وسلاحها وإعلامها ونجاحها في كسب الرأي العام الشعبي والقانوني إلى جانبها، حتى وصلت الدعاوى القضائية إلى محكمة لاهاي الجنائية والمظاهرات الحاشدة إلى عُقر العواصم الغربيّة، وهو بلا شكّ، إحرازٌ سياسي سيكون له ما بعده.
صحيحٌ أن غزة دفعت خلال 50 يومًا قرابة الـ15 ألف شهيد، بينهم أكثر من 6 آلاف طفل و4 آلاف امرأة، فضلا عن أكثر من 35 ألف مصاب، نحو 75 بالمئة منهم أطفال ونساء، وفقا للمكتب الإعلامي الحكومي.
لكنَّ لا مفرَّ من هذه الضريبة التحرُّرية، رغم قداسة الروح الفلسطينية، إلَّا بتسليم الوطن للاحتلال الغاصب طواعيّة، وإذا كان ثمّة من يستكثر فداءه بالدم، فإنّ هذا المنطق لا ينسحب على الجزائريين بالذات، لأنهم لقّنوا العالمين كيف تُستردّ الكرامة.
ألم تقدّم الجزائر خلال ثورتها الكبرى 1.5 مليون شهيد (مقابل فقط مقتل 23 ألف فرنسي)، أما طيلة عهد الاستعمار البغيض، فقد فقدنا 5 ملايين و630 ألف شهيد، ضحّوا بحياتهم على مرّ المقاومات والثورة التحريرية.
والأمر نفسه بالنسبة للفيتناميين خلال 8 سنوات من الحرب، بسقوط مليونيْ قتيل و3 ملايين جريح وما يناهز الـ12 مليون لاجئ، بينما لم يتعدّ الضحايا الأمريكيون 57 ألف قتيل و587 أسير، وفي النهاية، حققوا انتصارا تاريخيا.
الحروبُ القومية لا يحسمها السلاح وحده، بل تؤدّي فيها الروح المعنوية دورا فاصلا مع مرور الزمن، إذ يقاتل أصحابها عدوّهم بشراسة، دفاعًا عن قضيتهم العقديّة العادلة.
خلاصة الموقف، أن الإسرائيليين اليوم يناقشون فعليّا، وأكثر من أي وقت مضى، المستقبل الوجودي للكيان، وسبق للمفكر الإستراتيجي الصهيوني، فان كريفيلد، الحديث عن عوامل تفكّك إسرائيل، خلال حوار له عقب الحرب السادسة قبل 17 عامًا، موضّحا حينها أنه “لا يمكن بأي حال التصدي للانتفاضة وإخمادها”.
وجاء استشراف فان كريفيلد المتشائم عقب عملية رصد تاريخية لحركات المقاومة عبر العالم، خلص من خلالها إلى أنه لا توجد أي سلطة احتلالية عسكرية نجحت في قمع أي حركة مقاومة، فماذا كان سيقول هذا الخبيرُ بعد صدمة “طوفان الأقصى”؟
بل إن قادة عسكريين كبارًا، على غرار موشي يعلون، القائد السابق لأركان الجيش الصهيوني اعترف بمحدودية قدرة
المجتمع الإسرائيلي على الصمود، وفق نظرية “خيوط العنكبوت”، بمعنى أنه “ينتمي إلى دولة تبدو من الخارج عظمى عسكريا، لكن من يلمسها من الداخل يجدها مثل خيوط العنكبوت”.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!