-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع
من جوائح الجزائر عام البو…

وقائع سنة من المجاعة والبؤس والموت

فاروق كداش
  • 4601
  • 3
وقائع سنة من المجاعة والبؤس والموت
ح.م

عام البو والشر والزلزلة والماريكان والديباركمان هي تسميات كثيرة لسنة كانت أشبه بقيامة مصغرة ألمت بالجزائريين إبان فترة الاستعمار الفرنسي.. جوع وأمراض وكوارث طبيعية جعلت من هذه الفترة الأسوأ في تاريخ تواجد فرنسا في الجزائر.. وأصبح يضرب بها المثل للحال المتعثرة والفقر… الشروق العربي تنفض الغبار عن أرشيف تتناساه فرنسا وذاكرة رسخت في أذهان الأجداد ونخرت أجسادهم.

عام البون أو عام الشر هي فترة عصيبة من تاريخ الجزائر امتدت من سنة 1944 إلى ما بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية‪،.

فبعد انهزام فرنسا في بداية الحرب العالمية الثانية في أربعينيات القرن الماضي جعلت هذه الأخيرة مستعمراتها، كالجزائر والمغرب، جبهة خلفية لإنتاج المواد الغذائية، فأتت هذه السياسة الاستنزافية للمحاصيل على الأخضر واليابس، بالإضافة إلى الجفاف الذي عم الجزائر خلال عدة سنوات..

الخبز مقابل الأرض

سنوات قحط أتت على ثلاثة أرباع المحصول… فجفت عروق الأرض وقل الزاد.. هذا الوضع اضطر الكثير من الفلاحين إلى ترك أراضيهم مقابل ما يسدون به جوع عائلاتهم، وساقوا قطعانهم إلى الأسواق لبيعها بأبخس الأثمان، وأجبرت السلطة الاستعمارية آخرين على ترك أراضيهم قسرا وتركها للأجانب، وفي المقابل عرضت عليهم حصة شهرية قدرها ثلاثة كيلوغرامات من القمح والشعير.. وحسب بعض الروايات، فإن الناس حينها كانوا يهرعون من المناطق السهبية ومن الجنوب هربا من الجوع باتجاه المناطق التلية، أملا في العثور على الشعير والقمح، لكن أهل التل أنفسهم كانوا يعانون الجوع، وأصبحت المواد الأساسية تباع في السوق السوداء بأضعاف سعرها… كان الناس يلجؤون إلى حيل لسد الجوع وكانوا يستبدلون القهوة بالحمص والسكر بالتمر اليابس وكانوا يسترون عوراتهم بأكياس المواد الغذائية المصنوعة بالخيشة.

..وسرعان ما تدهورت أحوال الناس ومسهم الجوع والفاقة فمات الآلاف جوعا، ولحقهم الآلاف بعدها من جراء المرض… فتناثرت الأجساد الهزيلة هنا وهناك بأسمال بالية وبخطى متثاقلة.

نظام البون

أما في المدن، ففرضت فرنسا نظاما استهلاكيا جديدا عرف بالتموين بالبون، وكان الجزائريون يقتنون المواد الاستهلاكية بتقديم أوراق “البون”. وأصل التسمية من الكلمة الفرنسية  bon أو وصل خاص. وكان الجزائريون آنذاك ينطقونه “البو”. وقد عرف هذا البون بلونه الأخضر، كان يمنح لكل رب عائلة يقدمه كل أسبوع للحصول على مؤونة أو ما كان يسمى بالعامية “رافيطايمون”… وكان هذا البون اللعين يتكون من سكر وزيت وشاي وقهوة وبعض الألبسة.

لم تكن هذه المؤونة الشحيحة كافية لسد أفواه الملايين من الناس السابغة الجائعة، فاضطر الكثيرون إلى أكل الأعشاب وجذور النباتات البرية مثل القرنينة والترفاس والعرعار والترقودة وقرين جدي والتالمة وكل الطرائد البرية حتى الجرذان حسب شهادات البعض…

 وتفشى من وراء هذه المجاعة مرض التيفوس، الذي أصبح بعدها وباء أودى بحياة المئات والمئات من الناس وعانى الناس خاصة الصغار من سوء التغذية، وأصبحت القرحة ومشاكل الجهاز الهضمي ملازمة لكل وجبة غير سائغة… وتصادفت أحداث كثيرة مع المجاعة المتفشية مثل الزلزال، مما زاد الوضع سوءا..

أهازيج الجوع

كثيرة هي الأشعار الشعبية التي تحكي عن هذه الفترة العصيبة، منها ما ترويه الجدات عن أمهاتهن اللواتي عايشن الجوع فغنين: “مانشتيش الشرّ راني جربتو وعلى ما دارت فيّا… ترقودة والعرعار قرين جدي عليه طيّبت إيديّا”. وأخريات هتفن: “الله الله يالرقدة يُذكرك بالخير، الطاجين رقـد وتهنّى والحلاّب يحير، التارقودة قمح العولة والبلوط شعير…” وأهازيج تذكر الحرب العالمية الثانية وأدولف هيتلر: “أنتِ عزيّج كذّابة وهتلير وَيْكت شفتيه… الحمص ما نحّ الدوخة والطين صوبنتي بيه… قعدتي حمرة عريانة حتى بالخيش لبستيه…”

 ذاكرة الجسد

حاولت فرنسا أن تخفي هذا الجزء الأسود من تاريخها الملطخ بدماء الأبرياء وراحت تروج لصورة المنقذ، فانتشرت صورهم وهم يوزعون الأكل على الأنديجان كما يسمونهم، ولكن هيهات أن يمحو مستدمر ذاكرة شعب صقله الجوع وقوت الفاقة شكيمته… وعلى بطون خاوية قامت الثورة التحريرية، فابتلت العروق المروية بالحرية وسكنت القلوب المفعمة بحب الوطن.. هذه الجزائر التي لا يقهرها ظمأ ولا تهزمها مخمصة.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
3
  • عوزي

    ما زال عندنا سند اوbon من سنة 1944 لجدي رحمه الله

  • توهامي كتاب

    ذكرتموني بحكايات الأجداد، هي سبب كرهي لفرنسا و لمن يحبها. و قولي دائما هو الحمد لله على نعمة الاسلام و الصلاة و السلام على سيدنا محمد و على آله و صحبه أجمعين ... الله يرحم الشهداء و يجعلهم مع الأنبياء و الصديقين الذين ضحوا بأنفسهم من أجل هذا البلد الطيب ... اللهم اهدى و استر المجاهدين الحققيين و عافيهم واعف عنهم واحسن خاتمتهم .... اللهم لا تبارك في كل من قدم نفسه أنه مجاهد و هو لم يقدم شيء . اللهم اجعل هذا البلد آمنا و احفظه واحفظ كل من يريد به الخير ... اللهم هذم واهزم كل من يريد بهذا البلد الشر سواء من قريب أو من بعبد ...

  • أبو عمر

    أحسن مقال قرأته في الشروق!