-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

يتباهون بها.. ثم لا يعمرونها إلا قليلاً!

سلطان بركاني
  • 2013
  • 0
يتباهون بها.. ثم لا يعمرونها إلا قليلاً!

في الحديث الصّحيح أنّ النبيّ -صلّى الله عليه وسلم- قال: “مثل أمتي مثل المطر لا يُدرى أوله خير أم آخره؟”.. هكذا قضى الحقّ -سبحانه- أن تظّلّ الأمّة الخاتمة أمّةً لا ينقطع منها الخير أبدا، ومهما قلّ وانكمش في بعض الأوقات فإنّه لا ينقطع.. وزماننا هذا على الرّغم من أنّه ربّما يكون زمان الغربة الثانية، إلا أنّ الخير لا يزال جاريا في الأمّة بفضل الله؛ هناك من يجاهدون في سبيل الله الأعداء المعتدين، وهناك من يقولون كلمة الحقّ لا يخافون في الله لومة لائم، وهناك من يحملون همّ الدّين ويدعون إلى الله في كلّ مكان ويُدخلون في دين الله الآلاف المؤلّفة من النّاس بفضل الله، وهناك من ينفقون في سبيل الله ويطعمون الفقراء والمساكين وأصحاب الحاجات، وهناك الصّالحون الذين يصومون بالنّهار ويقومون الليل ويختمون القرآن ويتدبّرونه، وهناك الصّالحات اللاتي يقمن ويصمن ويتصدّقن ويلبسن الحجاب الشرعي الواسع، ولا تغريهنّ زخارف الدّنيا، ولا ينافسن في المظاهر الفانية…

كلّ ما ذُكر موجود بفضل الله، ومهما كان قليلا فإنّه واقع نراه ونلمسه في حال عباد مسلمين الهمّ الأكبر لأحدهم أن يرضى الله عنه ويلقى مولاه على الإسلام الحقّ، بين عينيه قول الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾.

لعلّ من أجْلى مظاهر بقاء الخيرية في هذه الأمّة، أنّها لا تزال تنفق في بناء المساجد من دون كلل ولا ملل، وتتنافس في إعلائها وتجهيزها وصيانتها.. حتّى إنّ أغلب الدول الإسلامية لا تبني المساجد من الميزانيات العامّة، إنّما تعهد ببنائها إلى المحسنين، وهذه من أعظم أعمال البرّ والخير؛ روى ابن ماجه عن جابر بن عبد اللَّه -رضي اللّه عنه- أنّ رسول اللّه -صلّى اللّه عليه وسلّم- قال: “مَنْ بَنَى مَسْجِدًا لِلَّهِ كَمَفْحَصِ قَطَاةٍ، أوْ أَصْغَرَ، بَنَى اللَّهُ لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ”.

هذا واقعٌ يسرّ كلّ مؤمن ويغيض كلّ كافر أو منافق، لكنّه وحده ليس كافيا؛ فلا يكفي أن نبني المساجد ونشيّدها، إنّما الواجب أن نعمرها ونصلي فيها ونحضر الدروس ومجالس الذّكر التي تعقد فيها؛ فلا يصحّ لعبد يؤمن بالله واليوم الآخر ويصلّي ويزكّي، أن يهجر بيوت الله، فلا يدخلها إلا مرّة في الأسبوع! الإيمان بالله يجب أن يثمر محبّة لأحبّ البقاع إلى الله، يقول الله تعالى: ﴿إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآَتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ﴾ (التوبة: 18).. بيوت الله هي الأماكن التي يرضى الله عمّن يحبّها ويعمرها يرجو ما عنده سبحانه، يقول النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم-: “بشر المشائين في الظلم إلى المساجد، بالنور التام يوم القيامة” (صحيح الجامع)، ويقول -عليه الصّلاة والسّلام-: “سبعة يظلهم الله في ظلّه يوم لا ظلّ إلا ظلّه”، وذكر منهم: “ورجل قلبه معلّق بالمسجد”.

مؤسف حقيقة هذا الواقع الذي نعيشه، عندما أمست مساجدنا تشكو غربتها إلى الله؛ مساجد أنفقت في بنائها وتشييدها الملايير، تسع الآلاف من المصلّين، لكنّه لا يصلّي فيها الصّلوات الخمس غير بضع عشرات أو بضع مئات.. روى البخاري عن صحابيّ النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- أنس بن مالك -رضي الله عنه- أنّه قال عن حال النّاس مع المساجد في آخر الزّمان: “يتباهون بها، ثم لا يعمرونها إلا قليلاً”.

رضينا بالصّلاة في بيوتنا، وهجرنا المساجد وتركناها تشكو حالها وغربتها إلى الله.. عمرنا المقاهي والأسواق والملاعب، وتركنا المساجد فارغة.. في أيام كأس العالم هذه، تمرّ في وقت مباراة من المباريات بمقهى من المقاهي فترى الشباب وحتى الكهول يحجزون أماكنهم في المقهى قبل موعد المباراة ساعةً أو أكثر، وما أن تنطلق المباراة حتى تكون المقهى ممتلئة عن آخرها والواقفون أكثر من الجالسين.. ترى النّاس يصبرون ساعتين تقريبا من دون كلل أو ملل.. لكن عندما يتعلّق الأمر ببيوت الله، فإنّك ترى روادها لا يأتون الصّلاة حتّى يقترب موعد إقامة الصّلاة، ولو مكث الإمام في الصلاة ربع ساعة لوجدت الأصحّاء والشّباب يحتجّون قبل المرضى والشيوخ، وهذه من مفارقات هذا الزّمان؛ أنّك تجد أكثر من يشكون من طول الصّلاة هم الأصحّاء المتفرّغون!

سبحان الله! تُحدّث مسلما عن الصلاة في بيت الله، وتذكّره بأنّ صلاة الجماعة تفضل صلاة الفرد بـ27 درجة، وتسأله مقارِنا: لو أنّك وجدت عملا يبعد عن بيتك 30 كم براتب 27 مليون سنتيم، وعملا آخر في بيتك براتب مليون واحد، فأيهما تختار؟ لما تردّد في اختيار العمل في المكان الذي يأخذ عنه راتبا 27 مليونا، لكنّه يزهد في 27 درجة من الأجور والحسنات! صدق الله القائل: ﴿لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لَاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ﴾، ﴿بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالْآَخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى﴾، ﴿كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ * وَتَذَرُونَ الْآَخِرَةَ﴾!

في أيامنا هذه، لو سألت أحد شبابنا: إن كنت لا بدّ متابعا مباريات كأس العالم، فلماذا لا تتابعها في بيتك؟ لأجابك: “لا أستطيع متابعتها في البيت، لا بدّ لي من النّزول إلى المقهى لمتابعتها مع الجماعة”.. مباريات كرة القدم يحرص على متابعتها جماعة، حيث روائح الدخان، وحيث الصّخب واللّغو واللّغط، في أماكن لا يحبّها الله.. لكنّ الصّلاة يأبى إقامتها في المسجد، حيث السّكينة والوقار والأجور المضاعفة ودعوات الملائكة!

هذه حالنا مع الصّلوات الخمس، ولا تختلف عنها كثيرا حالنا مع صلاة الجمعة في يوم الجمعة الذي هو يوم عطلة عند أغلب الموظّفين، بمعنى أنْ لا شغل ينتظرهم بعد الصّلاة؛ حيث نحضرها ولكنّنا نحضرها على كره متثاقلين، نتمنّى أن تنقضي في أقصر وقت ممكن.. تجد وقت الدرس والخطبة لا يتجاوز ساعة إلا قليلا، لكنّك تنظر في وجوه الناس فترى كثيرا منهم عيونهم لا تفارق الساعات إلا قليلا، ووجوههم تدلّ على أنّ قلوبهم قد بلغت الحناجر.. فلماذا نستسلم للشّيطان الذي ينخزنا ويجعل أثقل ساعاتنا هي الساعة التي نقضيها في بيت الله؟ يفترض في العبد المؤمن أن تكون أفضلَ ساعاته هي الساعة التي يقضيها في المسجد، ويفترض أن يجد أُنسه وراحته في بيت الله، ويصبر ويجاهد نفسه على الصّبر، خاصّة إذا لم تكن لديه مشاغل تشغله.

هذا قدوتنا -عليه الصّلاة والسلام- جعل بيوته إلى جوار المسجد؛ وكان يقول لبلال إذا حان وقت الصّلاة: “أرحنا بها يا بلال”، وكان إذا رجع من سفر أو غزو بدأ بالمسجد فصلى فيه ركعتين، ثم ينقلب إلى بيته، وفي مرض موته وهو في آخر لحظاته من الدّنيا يسأل عن المسجد والمسلمين فيقال له: هم ينتظرونك.. ومع أنّه قد ضعف ولا يقوى على القيام، لكنّه خرج يهادى بين ابن عمّه علي بن أبي طالب وعمّه العباس -رضي الله عنهما- ورِجلاه تخطّان الأرض، حتى أقيم إلى جنب أبي بكر في الصلاة.

ثمّ لننظر إلى أحوال الصّالحين مع بيوت الله؛ هذا عدي بن حاتم -رضي الله عنه- يقول: “ما دخل وقت صلاة قط إلا وأنا أشتاق إليها”، وهذا زياد مولى ابن عباس- أحد العباد الصالحين- كان يلازم مسجد المدينة، وقد سُمع يوما وهو في المسجد يكلّم نفسه حين حدّثته بالخروج، يقول لها: “أين تريدين أن تذهبي؟! إلى أحسن من هذا المسجد؟! تريدين أن تبصري دار فلان ودار فلان؟!”.. وهذا الإمام سعيد بن المسيب -رحمه الله- يقول: “ما أذّن المؤذّن منذ ثلاثين سنة إلا وأنا في المسجد”.

لماذا نحرم أنفسنا فرح الله بنا في بيته؟ نعم الله العليّ الأعلى الغنيّ الحميد -سبحانه- يفرح حينما يرى عبده في بيته، يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: “ما توطن رجلٌ المساجدَ للصلاة والذكر إلا تَبَشْبَشَ الله -تعالى- إليه كما يَتَبَشبَشُ أهل الغائب بغائبهم إذا قدم عليهم” (رواه الحاكم وقال: صحيح على شرط الشيخين).

والله إنّها لمعضلة ومصيبة أن تصبح الأوقات التي نقضيها في بيت الله هي أثقلَ الأقوات على قلوبنا وأرواحنا، نجلس بقلوب منقبضة وأرواح مثقلة ووجوه عابسة وعيون بالساعات متعلّقة، ننتظر على أحرّ من الجمر سماع تسليم الإمام في آخر الصّلاة!

ليس غريبا أن يجد لنا الشّيطان وتجد لنا أنفسنا الأمّارة بالسّوء الأعذار والمبرّرات في استثقال الجلوس في المساجد، فليس هناك من يقول إنّه لا يحبّ أن يطيل الجلوس في بيت الله لأنّه يكره المسجد أو أنّه يكره سماع القرآن أو سماع المواعظ، ولكنّ الشّيطان يزيّن لنا أعذارا نتمسّك بها، منها أنّ الأئمّة يطيلون الصّلاة ويطيلون الخطب ولا يتكلّمون في واقع النّاس! وعندما تتلمّس الواقع تجد أنّ هؤلاء الأئمّة المتّهمين بالإطالة لا يتجاوزون في أطول صلاة يصلونها ربع ساعة، ولا يتجاوزن في درس الجمعة وخطبتها ساعة من الزّمن إلا قليلا، وماذا تمثّل ساعة واحدة أمام 11 ساعة أخرى من نهار يوم الجمعة الذي هو في الغالب يوم راحة؟ لو سألت أيّ أحد ممّن يشكون طول خطب الجمعة عن الـ11 ساعة الأخرى من يوم الجمعة في أيّ شيء يقضيها؟ لما وجدته قضى ساعة واحدة منها في شيء ينفعه!

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!