الشاذلي كان شجاعا وتوقيف المسار الانتخابي جنب البلاد حربا أهلية
يقدم العقيد المتقاعد محمد خلفاوي كتابه “الاستعلامات.. رهانات حرب صامتة” على هامش المعرض الدولي للكتاب، حيث صدرت الترجمة العربية عن دار سارة للنشر بقلم الإعلامية المخضرمة فتيحة بوروينة. في هذا الحوار مع “الشروق” يعود خلفاوي إلى حيثيات الكتاب كما يقدم قراءته للتغيرات التي مست مؤخرا جهاز الاستعلامات.
ما هو الهدف من وراء هذا الكتاب؟
إن ما دفعني إلى كتابة هذا الكتابة هو غياب كتب ودراسات تهتم بهذا المجال في الجزائر على غرار ما هو موجود في الدول الغربية التي تحظى فيها أجهزتها الاستخباراتية بدراسات وبحوث معمقة وصلت إلى حد الإعلان عن مناقصات وطنية لطلب دراسات بشأن هذه الأجهزة، خاصة بعد اعتداءات 11 سبتمبر 2001، إذ عمدت الدول الغربية إلى إعادة تكييف أجهزتها مع متطلبات العولمة حيث توسّعت التهديدات والأخطار المحيطة بالدول. في حين تبقى أجهزة العالم الثالث ومنها الجزائر مغلقة في أبراج عاجية، وقد لاحظتُ أن الشباب لا يعرف الكثير عن دور أجهزته خاصة في مكافحة الإرهاب، لهذا فأنا استهدف من هذا الكتاب الشباب والباحثين قصد تقديم أرضية تساعدهم على تكسير ذاك الحاجز المضروب يبن الشعب والمخابرات.
لكنك لم تفصل في الفصل الخاص بالجزائر؟
أنا لم أكتب عن أجهزة الجزائر، ولكني كتبت عن الأجهزة بصفة عامة حتى يفهم القارئ أنها مهمة في حياته ولها دورها من جهة، ومن جهة أخرى حتى أوفر معلومات أولية لمن يرغب في الكتابة عنها، فدور الجهاز الحقيقي هو البحث عن المعلومة وجعلها في خدمة صناع القرار.
كانت الجزائر على موعد مع التاريخ لكن دون حساب التيار الإسلامي وتحديدا الجبهة الإسلامية للإنقاذ المحلة، هل يعني هذا أن فوز “الفيس” كان مفاجأة للسلطة؟
– لا، ليس بهذا المفهوم، لكن لم يكن منتظراً أن تمس الأحزاب الإسلامية بالديمقراطية وتتنكر لها. لم يكن منتظراً مثلا أن يقول علي بلحاج أن الديمقراطية كفر، ولم يكن منتظرا أن يقول رابح كبير أن على الشعب الجزائري أن يفهم أنها المرة الأخيرة التي يصوّت فيها لأن اختيار الحكام بعدها سيتكفل به مكتب الشورى، لم يكن منتظراً أن ندخل التعددية من أجل العودة إلى استبداد آخر.
بعض القراءات الأجنبية والفرنسية تحديدا قالت إن أسوأ الاحتمالات لم تتوقع اكتساح الفيس المحل للساحة، هل يعني هذا أن المخابرات آنذاك كانت خارج اللعبة الانتخابية؟
القول إن فوز الفيس لم يكن متوقعا، خاطئ، كان فوز جبهة الإنقاذ متوقعا، ربما لم يكن بتلك النسبة التي أسفرت عنها الصناديق، لكنه كان متوقعا بالنظر للحالة السياسية التي كانت عليها الأحزاب؛ فجبهة التحرير انحدرت بعد أن شهدت هجرة جماعية إلى أحزاب الأخرى، وكذا غادرها إطارات الجيش، ورغم أن الجبهة دأبت على الترديد أنها الحزب الأول في البلاد وهو عمل بسيكولوجي مارسته الجبهة طويلا وكرس أكاذيب في الأذهان، لكن في الحقيقة لا يوجد أي حزب كبير في الجزائر ما دامت لا توجد انتخابات حقيقية تسمح بتحديد حجم كل حزب، وحتى من صوّتوا للفيس صوّتوا ليس حبا فيه، لكن انتقاما من الحزب الواحد.
في عام 1986 اعترف الرئيس الراحل الشاذلي بن جديد أمام اللجنة المركزية لجبهة التحرير الوطني، بصعوبة الوضع ويقترح إصلاحات لكن يواجه معارضة من الناطق الرسمي باسم وزارة الدفاع الوطني الذي قال: “إن الاشتراكية خيار ثوري لا يمكن بحال التراجع عنه” هذه العبارة الواردة في الكتاب تلمح إلى وجود خلاف يومها بين مؤسسة الجيش والرئاسة في التعاطي مع الأوضاع. ما هو الدور الذي لعبه جهاز الاستعلامات يومها؟
كان خلافا في التوجيه ربما، وليس خلافا في العمق، وتزكية الشاذلي كانت واضحة من الجيش، لكن كل تغيير يحدث كان يلقى تخوفات ورهبة، كما يجب أن لا ننسى أن الوضعية الاقتصادية للبلاد كانت صعبة، برميل البترول وصل إلى 11 دولاراً حتى أن الشاذلي قال يومها متحدثا عن وضع المؤسسات الاقتصادية “رانا نعطوهم في السيروم“. كان يجب أن نمرّ إلى التغيير والتجديد والشاذلي كانت له شجاعة لاتخاذ هذه الخطوة. وكان لابد من تحييد جبهة التحرير حتى يتمكن الشاذلي من تطبيق إصلاحاته.
وهل كانت الجبهة بتلك القوة التي تمكنها من عرقلة إصلاحات الشاذلي ما دمت اعترفت أنها كانت مجرد آلة؟
القوّة ليست بمعنى المنع؛ فسلطة الرئيس الدستورية واضحة هنا، لكن الحزب كجهاز إداري بيروقراطي كان بإمكانه إزعاج سير الإصلاحات وعرقلتها.
لإزاحة الجبهة أو تحييدها من الساحة كان لا بد من فعل شيء. ما هل أنت من الذين يقرون بأن أحداث أكتوبر لم تكن عفوية؟
الاضطرابات كانت قد بدأت حتى قبل أكتوبر 1988، وحتى خطاب الشاذلي كان يفهم منه أن هناك من كان يريد الدفع بالشعب للخروج قصد إيجاد مخرج لفرض الإصلاحات، ومن يدعي أن أحداث أكتوبر كانت عفوية وأن الشعب هو الذي ثار من تلقاء نفسه بإمكانه الرجوع إلى شهادة خالد نزار حول الأحداث. ويمكن كذلك الاستناد إلى شهادة محافظ بومرادس في تلك الفترة، وقد زرته شخصياً لأمر ما وقال لي إنه هدّد الشرطة برفع تقرير للرئاسة لأنها تراخت في إخماد الاضطرابات التي اندلعت في الرغاية، ويجب أن أفتح قوساً هنا لأسجل أن عدد القتلى في التقرير الذي رفع للشاذلي كان 190 وليس 500 ولا 200 قتيل، وكما هو ثابت أيضا في العشرية السوداء، فإن عدد القتلى كان لا يخرج عن 10 آلاف ضحية سنويا، ومن لديه كلام غيرها هذا فليواجهني به.
هناك بعض القراءات التي تشير الى دور فرنسوا متيرون صديق الشاذلي في فرض بعض الخيارات في التقليل من حظوظ الفيس في الانتخابات وكانت قراءات خاطئة زجت بالبلاد في المستنقع. ما رأيك؟
لا أعتقد أن متيران تدخّل بهذه الصفة والقوة في الأمور الحساسة، لكنه قدّم خطابا صريحا قال فيه “حان الوقت لبلدان حوض المتوسط الدخول في الديمقراطية” تزامنا مع توالي سقوط قواعد المعسكر الشرقي، ربما الرئيس الفرنسي يكون قد قدّم نصيحة ما للشاذلي في هذا الاتجاه، لكن ليس بصفة فرض الرأي، ثم أن القرار في تلك المرحلة كان قرار مجموعة وليس قرار فرد.
هل تعتبر أن توقيف المسار الانتخابي كان قرار صحيحا؟
للإجابة عن هذا السؤال، يمكن طرح سؤال آخر: هل الاستفزازات والتهديدات التي كانت تصدر من طرف الجماعات الاسلاماوية صحيحة وشرعية؟ جماعة ملياني التي ذبحت جنود ثكنة قمار، أحداث بوزريعة وحتى العنف اللفظي لقادة الفيس والذي كان قد بدأ حتى قبل الانتخابات.. الشعارات التي كانت ترفع في المظاهرات التي كانت تشحن الشارع… وهل تكفير الديمقراطية من قبل قادة الفيس كان أمرا مشروعا؟ ثم إنه كان علينا أن نأخذ في الحسبان أمرا آخر كانت اتجاهات أخرى تهدد بالوقوف في وجه الدولة “الثيوقراطية” التي كان يدعو إليها الفيس، لم يكن ممكنا أن نزجّ بالمجتمع الجزائري في التقسيم ونتسبّب في حرب أهلية. لو كانت نية الفيس سليمة في احترام الديمقراطية لماذا جنح للعنف وحمل السلاح مع العلم أن الدستور يخوّل فقط للجيش حمل السلاح وأي طرف خارجه يحمل السلاح يفقد آلياً مشروعيته.
توقفت أيضا في الكتاب عند جهاز “المالغ” ودوره في حرب التحرير لكن أيضا كان لهذا الجهاز دور في تصفية رفقاء الثورة مثلما حدث مثلا لعبان رمضان الذي أمر بوصوف بتصفيته؟
بوصوف هو الذي نفذ تصفية عبان وهذه حقيقة معروفة، ولنترك هذا العمل للمؤرخين، ومهما حصل فإن هذا لا يقلل من قيمة أبطال الثورة من بوصوف إلى عبان، والمعروف أن كل الثورات تبتلع أبناءها الأقوياء والأوفياء الذين لم يُفهَموا في وقتهم. عبان كان ضحية زمانه، ذنبه ربما أنه كان متفوقا على من كان معه. كانت ربما تلك من بعض أخطاء الثورة، لكن كما قلنا لا تقلل من شأن الرجال.
يحمل الشارع الجزائري نظرة خاصة لأجهزة الاستعلام كونها هي التي تصنع الرؤساء وتتدخل في اتخاذ القرار، إلى أي مدى تعتبر هذه النظرة صحيحة؟
دور جهاز الاستعلامات هو استقاء المعلومة ودراستها وتفكيكها لتحضير الأرضية لاتخاذ القرار بشكل صحيح، وهي بهذا المعنى، فالأجهزة الأمنية تتدخل في صناعة القرار، لكنها لا تعيّن الرؤساء، لكن يجب الانتباه إلى الأمور تجري دائما في اتجاه البحث عن من يكون مقبولا. هذا لا يتعلق بالجزائر فقط، بل حتى في أمريكا الأجهزة دائما لديها دور مهم في تحضير الأرضية لصناعة القرار.
في الكتاب أيضا لمّحت إلى إمكانية أن تكون “تقنتورين” مدبّرة من الخارج. من له مصلحة في هذه القضية؟
قيل إن المجموعة التي نفذت هجوم “تقنتورين” تكوّنت في مصراته ودخلت إلى الجزائر، وقيل أيضا إن أناسا معينين كان عندهم علمٌ بها، لكنهم اعتقدوا أنها لن تضرب في الجزائر، بل ستتبع سيرها إلى النيجر ومالي على أن يتم محاصرتها هناك. هل كان هذا إخفاقٌ في تقدير المعلومات؟ هل هي إخفاق في التحليل وكثافة المعلومات؟ هل كانت منظمة من أجل تكسير الأجهزة الجزائرية التي بقيت صامدة خاصة وأنها معروفة على المستوى الدولي؟ التاريخ وحده كفيل بأن يجيب عن هذه الأسئلة.
أشرت في كتابك أيضا إلى أن الممارسة السياسية مستقبلا لم يعد للإسلاميين فيها حظ كبير. ما رأيك في إعلان مزراق عن إنشاء حزب سياسي؟
مزراق تحدث لأن وراءه أناساً وعدهم بتحقيق مكاسب سياسية. مزراق كان قادرا على أن يستغنى عن الكلام الذي قاله لأنه انتهى حتى قبل أن يبدأ سياسيا، خاصة وانه اعترف بقتله لجندي.
كإطار سابق، كيف تقرأ التغييرات الأخيرة التي مست جهاز الاستعلامات؟
بعد التغييرات التي مست “الدياراس” وتجريده من عدة مديريات، كان الأجدر لو تم تغيير اسمه، بعد تجريد الجانب الأمني منه، صار جهازاً آخر رغم أننا لا نعارض التغيير لان التغيير مطلوب لضخ دماء جديدة وإعطاء نفس جديد للجهاز.
هناك من وصف التغييرات ببداية السير نحو الدولة المدنية؟
الذهاب إلى الدولة المدنية يحتاج إلى طريقة سلسة في التغيير.
لماذا أخفى رجل المخابرات السابق محمد مدين نفسه عن الشعب؟
وهل يوجد قانون يجبر توفيق على الظهور؟ ربما لو كان هو الناطق الرسمي للجيش نعم يجب أن يظهر، توفيق كان موظفا ساميا لدى الدولة وكانت له مهامه، لكن توفيق كان آلة تضمن الأمن للبلاد، لكن في يد من يتحكم فيها لا يوجد قانون يجبره على الظهور، وهل سمعنا مثلا بمدير المخابرات الفرنسية يدلي بتصريحات؟ ولماذا؟ لأن التصريح في الأمور الأمنية من صلاحيات الرئيس وحده.