-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع
34

ماذا قال لي الفقيد مهري في لقائنا ليوم كامل بلندن؟

عمر أزراج
  • 7108
  • 14
ماذا قال لي الفقيد مهري في لقائنا ليوم كامل بلندن؟

مثلما ذكرت في إحدى حلقات هذه المذكرات، فقد تمحورت حياتي في بريطانيا منذ أن وصلت إليها في أوائل عام 1986 لغاية 2007م حول التحصيل العلمي في مجالات اللغة الإنجليزية، ونظرية الثقافة، والتحليل النفسي، والفلسفة والدراسات الكولونيالية وما بعد الكولونيالية، والعمل الإعلامي في الفضائيات والصحافة العربية المهاجرة وكذلك في الفضائيات الإنجليزية حيث كنت أمارس التعليق السياسي والثقافي.

لقد كانت الأزمة الجزائرية في قلب اهتماماتي اليومية، بل إنها كانت الشغل الشاغل لي على المستوى السياسي والاجتماعي، وكثيرا ما تألمت وبكيت كلما تناهى إليّ خبر مجزرة، أو اغتيال هذا الشخص أو ذاك سواء في عاصمة البلاد أو في الجزائر العميقة. في هذه الفترة جمعني لقاء مع صديقي الراحل عبد الحميد مهري عندما زار إذ ذاك لندن/ بريطانيا برفقة زوجته للمشاركة في ندوة الحزب القومي العربي الذي أنتخبه أمينا عاما له. دعوت الصديق مهري رحمه الله إلى غداء رفقة حرمه، واخترت مطعما جميلا في المنطقة اللندنية التي تحمل اسم “نوتنغ هيل غايت” NOTTING HILL GATE حيث   صور، وجرت أحداث، الفيلم الشهير الذي يحمل هذا الاسم بالذات.

على مأدبة الغداء حدثني الصديق مهري بحزن عميق عن الطريقة التي أقصي بها كأمين عام لحزب جبهة التحرير الوطني، وأتضح لي أن السبب الجوهري يعود إلى عاملين أساسيين اثنين، أولهما يتمثل في كونه أمينا عاما للحزب يجعله بعيدا عن السلطة، وأن يتمتع بالاستقلالية إلى جانب الأحزاب المعارضة. أما السبب الثاني فقد أعاده إلى موقفه من تداعيات عملية إلغاء المرحلة الثانية من الانتخابات التشريعية في التسعينيات من القرن الماضي، وكذا مشاركته إلى جانب آيت أحمد الحسين رئيس حزب الأفافاس وقيادات معارضة جزائرية أخرى قصد وقف نزيف إراقة الدماء، ومواصلة الإصلاحات والنهج السياسي التعددي بدون إقصاء هذا التيار أو ذاك.

أذكر جيدا أن الأخ مهري لم يذكر أيا كان بالسوء، وخاصة أولئك الذين عرفوا كمهندسين للانقلاب عليه، قد قال لي بالحرف الواحد بأن المسألة لا تتعلق بمن ينبغي أن يتزعم حزب جبهة التحرير الوطني، وإنما الغاية تتمثل في إعطائه مضمونا جديدا وحديثا ليكون قادرا على قيادة البلاد إلى بر الأمان. ونحن معا بذلك المطعم قمنا باستدعاء بعض الذكريات المشتركة عندما كان رئيسا للجنة الثقافة والإعلام والتربية بالأمانة الدائمة للجنة المركزية، وخاصة حين عملنا تحت إشرافه في لجنة إعادة صياغة الميثاق الوطني. كما تذكرنا معا مجريات الندوة التي نظمناها باتحاد الكتاب الجزائريين تحت شعار “الحوار العربي الإفريقي” وشارك فيها عدد كبير من الكتاب العرب والأفارقة، والتي كانت الغاية من وراء عقدها في الجزائر إحياء ذكرى “المهرجان الثقافي الإفريقي” الذي انعقد بالجزائر في عهد الرئيس الراحل هواري بومدين. كان انعقاد تلك الندوة في 16 / 05 / 1983 من أجل جعل الجزائر أيضا لاعبا فكريا وثقافيا محوريا في القارة الإفريقية. قد حرص اتحاد الكتاب الجزائريين على التمهيد للشروع في تأسيس اتحاد أدباء وكتاب إفريقيا، ولكن ذلك المشروع الحيوي تبخر بعد انتهاء عهدتنا مع الأسف. كان الأخ مهري هو الذي افتتح تلك الندوة بمقر التلفزيون الجزائري بكلمة دعا فيها إلى دعم أواصر الثقافة العربية الإفريقية وربط الشعوب في العالم العربي وفي قارة إفريقيا ببعضها البعض، وجعل الثروة الأدبية والفنية والفكرية أساسا للعمل المشترك، وذلك باستلهام العمق التاريخي والحضاري الذي شكل، عبر مسارات التاريخ، عناصر الهويات الوطنية في هذين الفضائين .

بعفوية سلسة غيرت دفة الحديث ثم سألت الأخ مهري عن سبب انكماش الجزائر وغياب المشروع الوطني الذي يرشحها للتأثير دوليا ثقافيا وفكريا وسياسيا. فكر الأخ مهري طويلا ثم استرسل في الحديث الذي أجمع الآن بعض خيوطه هكذا “إنه يمكن تفسير هذا الانكماش بأسباب تاريخية وجغرافية، علما أن لهذه الأخيرة دورا مفصليا في تكريس ظاهرة انغلاق الجزائر على العالم الخارجي. فالجزائر معزولة إفريقيا بواسطة الصحراء العملاقة، ولذلك فإن تواصل الشمال الجزائري ذي الكثافة السكانية مع العمق الإفريقي متأثر على نحو سلبي وعميق بالحاجز الصحراوي. من حيث العلاقة بأوروبا فإن البحر الأبيض المتوسط تحول عبر التاريخ إلى بؤرة تفرخ الاحتلال والغزوات الاستعمارية. من هنا فإن هذا البحر مرتبط بالمآسي والتدمير بدلا من التنوير والتفاعل الثقافي والفكري والفني بين شمال وجنوب أوروبا وبين الجزائر“.

توقف الأخ مهري قليلا ثم واصل قليلا: “من جهة الشرق فنحن لا نملك حدودا مع دول عظمى لنقارن أنفسنا بها، أو لننشط قوانا وطاقاتنا الوجدانية والفكرية للتنافس معها. لذلك فإن أي تأثير قادم من الشرق الأوسط يتوقف في تونس أولا لسنين ولا يصلنا منه إلا الشيء البسيط. أما من حيث الغرب فنحن أيضا لا نملك تماسا مع حضارة كبرى مخالفة لنا لنقارن أنفسنا بها، ولنصنع معها المثاقفة. فالمغرب الأقصى المتاخم للجزائر يكاد أن يكون مساويا لنا في الطبع، والبعد الديني والمذهبي، وفي الصفات التاريخية والمستوى الثقافي. أما ما يتعدى المغرب غربا فهو ظلمات المحيط الأطلسي الذي يفصلنا عن القارة الأمريكية الشمالية والجنوبية بما لا يقل عن ثمانية آلاف كلم”.

 قلت للأخ مهري بأن هذا التأويل الجغرافي لانكماش الجزائر، وغياب تأثير حقيقي لها على العالم ثقافيا وفكريا، ونماذج سياسية تمثل ظاهرة كان يجب أن تخص الماضي البعيد فقط أما في عصر الطيران العابر للقارات فأمر مختلف ويمكن أن لا يكون مقنعا، وأنه من الغريب أن يكون هكذا. في هذه اللحظة نظر إليً الأخ مهري طويلا وابتسم ابتسامة عريضة، وقال لي بدبلوماسيته المفعمة باللطف: “من قال لك بأننا قد غادرنا نحن العصور القديمة، أو أننا نعيش في الجزائر بذهنية العصر الحديث؟”. فهمت تماما مقاصده وأشرت له بالموافقة على رأيه، وأضفت قائلا بأن حركة التحرر الوطني الجزائري قد أثرت عميقا في العالم، ولكن هذه الحركة [سلام الله عليها] قد أصبحت أيضا شيئا من الماضي القديم المقطوع الصلة الآن عن النماذج المتقدمة في كثير من البلدان التي كرست في حياتها الحداثة المتطورة فكرا وسياسة وجماليات، ونموذج إنسان حديث، وتنمية مادية وطنية مؤسسة على العلم والمعرفة، في ظل الديمقراطية المنبثقة من هذه الأسس والجذور.. 

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
14
  • said kermali

    شمس الله تضوي على الجزائر وكثير من خلق الله ينظرون الى الجانب المظلم فقط ، لسنا من جمهورية أفلاطو ن أو من جنس الملائكة هذا هو المستوى ومهما وقع وما سيقع فان هناك ذرة أمل جعلت الشعب الجزائري يعيش والمحمد لله أن السواد الأغظم من الشعب لا يتابع اخبار التشاؤم والا ركب كله قوارب الموت وذهب الى الذين يريدونه ان يهرب من الجزائر ليعذ بوه هناك . الصبر مفتاح الفرج والكفر نوعان بالملة وبالنعمة وعدم الاقتناع يؤدي الى عدم الثقة في كل شئ وفقدان الامل يؤدي الى مالا يحمدعقبا.رحم الله مهري كان متفائلا دائما

  • بدون اسم

    chhal fi amrek ya si mehraoui (1) bech tahki ala fis parce que beyn alik ntaa elbareh serouelk tayeh meloura

  • mohamed

    السلام
    بالجزائري : يعطيك الصحة !!
    أنا البارح كتبت ردين والشروق لم تنشر ...
    المهم المفيد فيما قلت هو : أمة لا تلم بالمقدرات الأخلاقية والثقافية والصناعية ... لا حياة لمن تنادي !
    أين نحن من ما قال الامام إبن باديس : يا نشأ أنت رجاؤنا * وبك الصباح قد اقترب ؟
    ما يحكى هنا وهناك قو اللهو بعينه ... وهى قد نطق الرويبضة وتولى رعاع القوم.
    الوقت وقت جد و كدح .. لانو إذا احنا عندنا ذاك النشأ ... لم يبقى إلا : خذ للحياة سلاحها * وخذ الخطوب ولا تهب
    المهم : كل في مكانه يعمل بإخلاص.

  • طير

    نحن نقرأ و نقرأ و يصعب النقد و لسنا ملمين لاننا نقرا ولا نتامل و لا نفكر. و يا له من انحراف ايديولوجي و اخلاقي هذا الذي نسلكه و ما هذا المستنقع الذي نحن فيه . عدنا بلا مرجعية و الكل يتكلم في يعتقد انه حرية التعبير و الديمقراطية. و الحقيقة ان مجتمعنا يتهاوى في ظلمات الجهل و الكسل. و يا لها من مفخرة و ان تفرقع بالونها لم نجد الا الهوى يتطاير في اتجاهات شتى . ويا لها من فوضى لم نشهد لها استقرارا و يا لها من امال اساسها التراب.

  • mohamed

    اللهم أشفي كل مريض، وأهدي كل ضال، وأرحم كل ميت ...
    أنت إختر أين أنت!
    الفيس ليسوا ملائكه ولا من تؤمن بهم ... فارجع إلى سواء السبيل.
    الشعب تعب مع كل الحضارات التي مرت عليه ... والاسلام نعمة من عند الله لنا.
    أفهم يا لفاهم

  • mohamed

    اللهم أشفي كل مريض، وأهدي كل ضال، وأرحم كل ميت ...
    أنت إختر أين أنت!

    الفيس ليسوا ملائكه ولا من تؤمن بهم ... فارجع إلى سواء السبيل.
    الشعب تعب مع كل الحضارات التي مرت عليه ... والاسلام نعمة من عند الله لنا.

    أفهم يا لفاهم

  • كربيل

    أوافق الرأي الرقم 2 -السيد سعد . المغرب بعيد عنا في نواحي عديدة و خاصة الثقافية منها فالأشقاء في المغرب يهتمون كثيرا بالأثار التاريخية و يحافظون عليها ويهتمون بكل شيئ له علاقة بالثقافة و الذين زاروا المغرب بلا شك أدركوا الفارق الذي بيننا و بينهم.

  • علي - ورقلة

    وزير خارجية الجزائر يستمع لخطاب الرئيس التونسي وغيره من العرب عبر السماعة المترجمة بالفرنسية. هذا ما لاحضته أنا أيظا و أثار غضبي أمام أبنائي. المرحوم مهري محق 100 في 100. و أزيد : لقد انقطع بنا الخيط الرابط بيننا و بين جذور الثورة إلا في صدور ووجدان الحالمين مثلي. يجب إنشاء أسباب نهضة أخرى تعود بنا إلى أصالتنا ثم إلى مكانتنا بين الامم.

  • م . غيور

    سيدي الكريم: مازلنا نتابع حلقاتك عبر الشروق، وفي هذه الحلقة، تساءلت قائلا:
    هل يا سيدي المحترم ذكرت المرحوم مهري عبد الحميد في هذا اللقاء، بما قلته في قصيدتك التي كانت وراء غربتك في المهجر ؟ وكم هم كثير أمثالك .
    إذا كان الجواب بنعم، فلماذا لم يحرك المرحوم ساكنا في الثمانينات وبقيت ج. ت.. و متقوقعة على نفسها ؟ فلا هي تجددت أو تبددت ، بل تراجعت حتى على أبسط مبادئها ، فأنت ونحن مناضلي الجبهة القدامى أدرى مني من حكاية الحزب العتيد ، الذي إلى حد اليوم لم يتجدد ولم يتبدد ، ليترك لأبناء الجزائر البررة يجدون أنفسهم في هذا العالم ، ويواجهون التحديات الداخلي

  • م . غيور

    سيدي الكريم: مازلنا نتابع حلقاتك عبر الشروق، وفي هذه الحلقة، تساءلت قائلا:
    هل يا سيدي المحترم ذكرت المرحوم مهري عبد الحميد في هذا اللقاء، بما قلته في قصيدتك التي كانت وراء غربتك في المهجر ؟ وكم هم كثير أمثالك .
    إذا كان الجواب بنعم، فلماذا لم يحرك المرحوم ساكنا في الثمانينات وبقيت ج. ت.. و متقوقعة على نفسها ؟ فلا هي تجددت أو تبددت ، بل تراجعت حتى على أبسط مبادئها ، فأنت ونحن مناضلي الجبهة القدامى أدرى مني من حكاية الحزب العتيد ، الذي إلى حد اليوم لم يتجدد ولم يتبدد ، ليترك لأبناء الجزائر البررة يجدون أنفسهم في هذا العالم ، ويواجهون التحديات الداخلي

  • sniper

    bravo, asmahli ya akhi ,,I dont have arabic keyboard , and because u dont like french language,, will write in english,,yesterday I saw MEDELCI in the meeting for syria seating between hilary clinton and achton, and using the earspeaker translating arabs leaders speech,, wich language he was listening too , I will let u to guess,,once again bravo brother

  • منى قصر البخاري

    اهنئ الكاتب والشاعر الجميل ازراج عمر على المقالات القيمة التي يمتعنا بها ويجعلنا فخورين بان الجزائر انجبت امثالك يا ازراج .دمت وفيا للبلد كما كنت دائما.انت مفخرة لنا

  • سعد

    شكرا للاستاذ ازراج لكن لا اشاطر السيد مهري في ما ذهب اليه من اسباب انغلاق الجزائر ثقافيا لان الاسباب الحقيقية لهذا الانكماش هو اولا احتقار كل ما هو عربي من طرف جل سياسيينا التبعية الثقافية لفرنسا الي حد الانبهار لدي القلة المثقفة في النظام الجزائري كذلك احتقار المثقف والثقافة لدي معظم سياسيينا لسبب بسيط وهو عدم حيازتهم علي شهادات علمية تاهلهم لاعتلاء المناصب التي هم فيها لانهم مجرد مناضلين اكتسبوا الممارسة السياسية اثناء الثورة اما في ما يخص المغرب الشقيق فنحن بعيدين كل البعد علي ما حققوه ثقافي

  • همرواي

    الجزائر دمرها الفيس