جمعية العلماء: المجد الكبير والمقر “الحقير”
من قرأ ماجاء في جريدة “الشروق اليومي”الصادرة في (14 – 11 – 2011. ص2) من أن مقر جمعية العلماء المسلمين الجزائريين يقع في حي حسين داي، الذي سيصير ـ كما قالت الجريدة “عاصمة العاصمة”لما يوجد فيه من هيآت هامة مثل المبنى الجديد لوزارة الخارجية، ومبنيي الميترو والترامواي، ولما سيوجد فيه عما قريب مثل وزارة العدل، والمجلس الشعبي الوطني، ومجلس الأمة..؛ من قرأ ذلك، ولا يعلم الحقيقة يتوهم أن جمعية العلماء توجد في قصر مشيد ذي سُقف مرفوعة، وزرابي مبثوثة، وأرائك وثيرة، وثريات كبيرة، في حين أن الحقيقة هي أن جمعية العلماء المسلمين الجزائريين وإن كانت ـ كما وصفتها ـ خير جمعية أخرجت للناس، وأنها أسست من أول يوم على التقوى وأن مؤسسيها رجال صدقوا ماعاهدوا الله عليه، فإن المقر الذي توجد فيه هو من أسوإ المقرات، إن لم يكن أسوأها وهي ليست ملومة في ذلك بل الملوم غيرها.
- إن هذه الجمعية المباركة تتعرض منذ بداية عهد “الاستقلال«(*) إلى معاملة غير شريفة، تدل على مستوى أصحابها العلمي والأخلاقي.
- لقد بدأت هذه المعاملة غير الشريفة في صائفة 1962، حيث توجه وفد من أعضاء جمعية العلماء إلى تلمسان لمقابلة الذين “دخلوا الجزائر من الباب الخلفي”(1)، لإخبارهم بأن جمعية العلماء تنوي العودة إلى النشاط بعدما أوقفتها السلطات الفرنسية في سنة 1956.
- استقبل أعضاء وفد الجمعية من قبل “كبير”الداخلين من الباب الخلفي، من غير أن يدعوهم إلى الجلوس فأخبروه بأنهم ينوون إعادة جمعية العلماء إلى النشاط، فرد عليهم بلهجة جافة بأن ذلك مستحيل، لأن الجزائر المستقلة لا يكون فيها إلا حزب واحد، و لو لقال: لا يكون فيها إلا شخص واحد.. يعني نفسه، ولم لم يكن ذلك الشخص في قلبه مرض وفي نفسه غرض لما سوى الأحزاب جمعية العلماء التي صرح مؤسسوها الأبرار بأنها “فوق الأحزاب، لا فوقية التعالي والترفع.. وإنما هي فوقية الإرشاد، والنصيحة، والمحافظة على الوحدة (2)«.
- ولو كان ذلك الشخص على هدى من ربه، وعلى مسكت من عقل، وعلى فضل من بعد النظر وسداد الفكر لكان هو الساعي إلى عودة جمعية العلماء إلى النشاط، لمساعدة الحكومة – التي يمني نفسه بها ـ على ماسيواجهها من مشكلات لا يقدر على حلها إلا من آتاه الله الحكمة والرشد، ورفعه بالعلم، وزكاه بحسن الأخلاق.. وكل أولئك شمائل في أكثر أعضاء جمعية العلماء… في بداية التسعينيات من القرن الماضي صدر قانون تأسيس الجمعيات، فعادت الجمعية إلى النشاط، ولكنها لم تعط مقرا فاتخذت من دكان حلاقة كان يملكه الأستاذ الطاهر فضلاء في حي أول ماي مقرا لها، حتى منح لها الدكتور سعيد شيبان ـ عندما كان وزيرا للشؤون الدينية ـ مكتبا في قصر حسن بساحة الإمام عبد الحميد بن باديس، هذا القصر التاريخي الذي منحته السلطات الفرنسية للأسقفية الكاثوليكية في بداية الاحتلال، لأن فرنسا لا تتنكر لدينها، وتعتز به، وتعرف قدر رجالها الدينيين، وتنزلهم أعلى المنازل، وتحلهم أسمى المراتب..
- وعندما تقرر إصلاح قصر حسن طلب من الجمعية ومديرية الشؤون الدينية لولاية الجزائر إخلاءه، أعطيت المديرية طابقا في مدرسة قديمة كانت مسكنا لعدة عائلات.. وبقيت الجمعية بلا مقر.. ولا عنوان!!!
- راح الشيخ شيبان – رحمه الله، ورغم الثمانين التي أخذت منه كل مأخذ – يجري هنا وهناك وهنالك، يهاتف هذا، ويكلم ذاك، ويتصل بذلك…. وذات يوم – وقد كنت معه في منزله – تلقى مكالمة من مسؤول كبير يخبره فيها أنه عثر على شقة في عمارة وعرضها عليه لتكون مقرا للجمعية...
- كان الشيخ شيبان قد طلب مقابلة محافظ الجزائر الكبرى فاستقبل الشيخ – وكنت معه – فطلب منه الشيخ أن يعطي للجمعية الطابق الأول من البناية التي توجد فيها مديرية الشؤون الدينية، فلم يتردد السيد المحافظ في إجابة طلب الشيخ، مع الأمر بتجهيز الجمعية بالمكاتب والخزائن والكراسي، وجهزت الجمعية بالمكاتب والخزائن، ولم تستلم كرسيا واحدا، لأن السيد المحافظ غادر المحافظة، فاضطررنا (الشيخ شيبان، والدكتور ڤسوم وكاتب هذه السطور) إلى الاتصال ببعض من نعرف من ميسوري الحال للحصول على بعض الكراسي.. وأخص بالذكر – هنا – الأستاذ الفنان سيد أحمد بن تونس الذي تكرم بإنجاز شعار الجمعية (رسما وتنفيذا). إن المقر الذي توجد فيه الجمعية غير لائق، فهي – بتاريخها المجيد وبأعلامها العظام علما وعملا – تستأهل مقرا يليق بهذا المجد الكبير وبهؤلاء الأعلام الذين يعتبر كل واحد منهم أمة.
- إن الجمعية عندما تطلب مقرا يناسب قيمتها العلمية وجهادها الشريف لا تتسول أحدا، ولكنها تطلب حقا، فممتلكاتها (مدارس – مساجد – نوادٍ) تستغل – منذ استرجاع الاستقلال – من طرف الدولة وبعض الأفراد.. وهي أولى وأحق بها .. خاصة تلك المدارس والنوادي التي حولت عن المهمة التي أسست من أجلها. وإننا لنتساءل – منتظرين الجواب من المسئولين -: لماذا لا تستولي الدولة عن ممتلكات بعض الهيآت وتمد يدها إلى ممتلكات الجمعية؟
- إن الذي يستهين بالجمعية ويستقلها، ويسيء إليها إساءة مادية أو معنوية هو أحد شخصين:
- *) جاهل بقيمة جمعية العلماء وتاريخها المجيد في إخراج الجزائريين من البدع والخرافات، وفي إحياء اللسان العربي في لهواتهم، وفي تعريفهم لتاريخهم، وفي إفشال المخطط الفرنسي الكبير وهو تنصير الجزائريين وفرنستهم.. أو
- *) جاحد لفضلها، حاقد عليها حاسد لها، ولا يجحد فضلها، ولا يحقد عليها، ولا يحسدها ، ولا يشنأها إلا:
- *) ملحد ومبتدع في الدين، أو
- *) شخص قلبه معلق بفرنسا، راكن إليها، مسخّر لها.
- لقد أعلنت الجمعية وأسرت لكثير من المسئولين أنها في مقر غير لائق، ولكن بعض من أعلنت لهم وأسرت ـ وبعضهم ممن لها فضل بتعليمه وتهذيبه بعدما كان يبري بظفره القلم كما يقول المتنبي – في آذانهم وقر، وعلى أبصارهم غشاوة، وفي قلوبهم مرض، وبعضهم منهمك في جمع المال وعده، أو جاهلا حكمة أبي الطيب المتنبي القائلة:
- ومن ينفق الساعات في جميع ما **** مخافة فقر، فالذي فعل الفقر
- ولا أنسى ذلك “الوزير”الذي بعث إليه الشيخ شيبان رسالة يطلب مقابلته، فلم يكلف نفسه أو هامانه الرد ولو بالاعتذار، وصدق من لا ينطق عن الهوى الذي قال: “الناس معادن…«، و”كل ينفق مما عنده”كما يقول زين العابدين بن الحسين رضي الله عنهما…
- الهوامش:
- * الاحتقلال: كلمة مركبة من كلمتي احتلال واستقلال
- * 1 توفيق الشاوي “نصف قرن من العمل الاسلاني” ص 349
- * 2 آثار الإمام الإبراهيمي جزء 3 ص 306