-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع
قضية الهوية الوطنية أخذت مكانة مركزية في نضاله / الحلقة الثالثة والأخيرة

رابح بلعيد.. أنصف مصالي الحاج وهاجم “الأفاعي” التي ورثتها الجزائر عن فرنسا

صالح سعودي
  • 850
  • 0
رابح بلعيد.. أنصف مصالي الحاج وهاجم “الأفاعي” التي ورثتها الجزائر عن فرنسا

يدافع المؤرخ رابح بلعيد في كتاباته عن القادة لعموري ونواورة وعواشرية الذين أُعدِموا من طرف إخوانهم في الكفاح المسلح، ويرى الباحث الأكاديمي أن خلفية الإعدام كانت “بهدف إبعاد القيادات الوطنية التي لا يتلاءم فكرها مع الاستراتيجية الأجنبية التي كانت تحاول وبكل الوسائل بسط سيطرتها ونفوذها على مختلف القيادات والعمل بجد لاحتواء الثورة”. كما يدافع عن زعيم حزب الشعب ويبّين بالدليل والحجة والبرهان أن مصالي أيَّد الثورة المسلحة بمجرد اندلاعها عبر رسالة أرسلها إلى كريم بلقاسم مع مبلغ كبير من المال عبر هنري بوليت، وهو مناضل تروتسكي.

المناضل الحقيقي في نظر بلعيد

بعيدا عن قسوة حياة الطفولة التي استثمرها من أجل الصمود وتجسيد طموحات المستقبل، فقد كان الدكتور رابح بلعيد عنصرا مؤثرا في المسائل النضالية منذ كان طالبا بفضل مواقفه التي كانت تصب في محاربة التيار التغريبي والحرص على تثمين الثوابت الوطنية التي تخص الدين الإسلامي واللغة العربية إضافة إلى الحركة الوطنية واحترام المبادئ الحقيقية التي مهّدت لثورة التحرير قبل أن تحيد عن مسارها الحقيقي، حسب ما أشار إليه في أكثر من مناسبة. ومن ضمن المقتطفات التي تضمنتها مذكراته الإشارة إلى مفهوم المناضل الحقيقي وطبيعة مبادئه وما هي الجوانب التي يتطلب اتباعها والمسائل التي يفرض تفاديها، حيث قال في هذا الشأن: “إن المناضل الحقيقي هو إنسان مثالي لا يتحدث عن نشاطه وأعماله مهما كانت قيمتها، لا يتحدث عن أعماله وكفاحه لأنه لا تدفعه دوافع الشهرة أو دواعي الحصول على المادة، بينما نجد بعض الأشخاص الآخرين يفتخرون بعناد بما ارتكبوه من رذائل وجمع للأموال الطائلة لملء بطونهم حتى التخمة.

إن المناضل منقاد للمبادئ النبيلة، مبادئ الأبطال الخالدين كسقراط وأفلاطون ومحمد- صلى الله عليه وسلم- والمسيح وغاندي، إن طريق المثاليين طريق مقدّر مرسوم ينطوي على ألم، وأشواك وعذاب ولكن برغم أن هذا السبيل معروف وينتظر كل مثالي فإنه ليس هناك مثالي حقيقي، يرتد عن هذا الطريق.. ويصمت عن أداء الواجب، مهما كان هذا الطريق موحشا ومليئا بالأشواك.

المثالي حينئذ ليس له الحق في الاحتجاج ضد عذابه ولكن له الحق أن يخوض معركة النقد البناء، لأنه عندما تخلى عن كل جزاء مادي فالمادة التي من حقه أن يتمسك بها إنما هي النقد البنَّاء، ففكرة النقد البناء مباحة له ومقبولة كوسيلة للتعبير الإنساني ولكن الواقع أنه من الصعوبة بمكان التمييز بين النقد البناء والنقد الهدام؛ فالكلمتان (النقد البناء والنقد الهدام) مثلهما كمثل الماء والثلج فهما من مادة واحدة ولكنهما يأخذان شكلين واسمين مختلفين، حينما تتفاعل المادة مع الظروف الذرية. وهكذا فإن النقد البناء يمكن أن يعتبر نقد تهديم وبالعكس بحسب الظروف الزمانية والمكانية والاعتبارات النفسية. وفوق كل شيء فإن ذلك يتوقف على الذين يتولون ترجمته وتأويله أو تفسيره وأحسن مقياس يوجه هذا التفسير إلى وجهة الإيجاب أو السلب هو الضمير”. وهذه المقتطفات هي من مقال عنونه بـ”رسالة مفتوحة إلى الحزب، مأساة شبابنا المنحلّ”، رابح بلعيد، نشرت في مجلة “الثورة في الجامعة”، السنة الأولى، العدد الثاني، بتاريخ 5 فبراير 1963.

كان غيورا على العربية 

ناضل الدكتور بلعيد من أجل تكريس مبدإ وطنية ورسمية اللغة العربية في دواليب السلطة والإدارة حتى إنه غير ما مرة توجه بالنقد إلى بعض المسؤولين لاستعمالهم الفرنسية في حديثهم الرسمي أو في الوثائق الرسمية. أما عن التاريخ فهو يعتقد أن الكتابة العلمية الصحيحة لوقائعه بعيدا عن الإيديولوجيات والمصالح هي السبيل لجسر الهوة بين الأجيال ومن ثم إحداث النقلة النوعية الإيجابية نحو المستقبل المزدهر. ومن بين المواقف التي تحسب له في أحد الاجتماعات التي عقدها مجلس الأساتذة لتقييم بعض القضايا العلمية، لم يتوان رئيس الجلسة في الحديث باللغة الفرنسية، وتبعه آخرون ما أثار حفيظته من البداية، معطيا ملاحظة في هذا الإطار حين قال لرئيس الجلسة: “يجب احترام العلم الذي وُضع على المكتب، ويجب الامتناع عن الحديث بلغة المستعمر في هذا المقام”. كما أنه لا يتقنها من أساسها، كما أن حديثه باللغة الإنجليزية سوف يخلف متاعب كثيرة للبعض الآخر ما يتطلب حسب رابح بلعيد الحديث سويا باللغة العربية التي أقرها الدستور.

من جانب آخر نفى في عدة مناسبات تهمة سرقة الأرشيف، حيث صرح في العدد 448 من أسبوعية “رسالة الأطلس” الصادرة من 11 إلى 17 ماي 2003 أن تهمة الاستيلاء على بعض وثائق الثورة لا أساس لها من الصحة، معتبراً أن وراء هذه الإشاعة أشخاصا معروفين تمنى أن يظهروا رؤوسهم لكي يتحداهم حسب قوله، مضيفا: “أنا لم أفعل شيئا لكي أتعرَّض للاضطهاد”. وفي ذات السياق أكد لنفس الجريدة أنه كتب رسالة إلى مدير مجلة المغرب العربي التونسية السيد عبد الجليل تميمي ورد عليه هذا الأخير مكذبا بشدة التهم الموجهة إليه حسب الدكتور رابح بلعيد.

دافع بشدة عن قادة أُعدِموا في الكفاح

تميز المجاهد بلعيد بجرأة قل مثيلها في زمن الثورة وبعدها في زمن الثروة، حيث سجل شهادته كاملة غير منقوصة ولم يحاول تأجيل الحديث عنها، رغم أنه كان يعلم علم اليقين أن هذا العمل سيؤدي به إلى التهميش والعقاب من طرف أصحاب القرار، أوَلم يقف المجاهد رابح بلعيد في سبتمبر 1962 ضد المشروع الفرنكوفيلي التغريبي الذي طرحته أطرافٌ فاعلة أثناء المؤتمر الخامس لاتحاد الطلبة المسلمين الجزائريين، حيث كان حينها في الهيئة القيادية للاتحاد نائبا للرئيس مكلفا بالعلاقات الخارجية؟ ألم يدافع المجاهد رابح بلعيد عن القادة لعموري ونواورة وعواشرية الذين أُعدِموا من طرف إخوانهم في الكفاح المسلح “بهدف إبعاد القيادات الوطنية التي لا يتلاءم فكرها مع الاستراتيجية الأجنبية التي كانت تحاول وبكل الوسائل بسط سيطرتها ونفوذها على مختلف القيادات والعمل بجد لاحتواء الثورة”، وفق اعتقاد الرجل؟ ألم يدافع رابح بلعيد عن زعيم حزب الشعب ويبّين بالدليل والحجة والبرهان أن مصالي أيد الثورة المسلحة بمجرد اندلاعها عبر رسالة أرسلها إلى كريم بلقاسم مع مبلغ كبير من المال عبر هنري بوليت، وهو مناضل تروتسكي، وقال حينها مخاطبا هذا الأخير: “يا هنري، هل بإمكانك السفر إلى الجزائر فورا؟” ووافق هذا الأخير وحمّله رسالة إلى كريم بلقاسم فحواها: “هناك خلافٌ حاد بيننا، ولكن الآن الثورة اندلعت وعلينا أن ننسى هذا الخلاف ونهتم بالثورة”؟ هذا مصالي الحاج الذي أعاد الاعتبار له عبد العزيز بوتفليقة بعد وصوله إلى الرئاسة، دافع عن مصالي منذ عقود وفي مرحلة معينة لم يكن فيها الواحد قادرا على أن ينبس باسمه ولو همسا.

قضية الاسترجاع الفعلي للهوية الوطنية 

إن متاعب الدكتور لم تبدأ بالمحاكمة الشهيرة التي تعرّض لها قبل عقد من الزمن، بسبب قوله لما يعتقده هو على الأقل حقيقة كاملة في مسألة تاريخية شائكة ومسكوت عنها بناء على وثائق وشواهد ثابتة، فهو المناضل الصنديد الثابت أمام المغريات والصعوبات، وأعماله التي نُشرت جزئيا في الصحف قبل سنوات وستجد طريقها إلى الطبع قريبا بحول الله شاهدة على مشروعه الفريد الذي يعتمد على إعادة مدِّ جسر التاريخ بين الأجيال الجديدة وماضيها، كوسيلة وحيدة وفعالة لمواجهة الصراع المستمر بين العالم الإسلامي والعالم الغربي الذي أنتج ظاهرة الاستعمار التقليدي الذي تحور وتطور بعد الحرب العالمية الثانية إلى استعمار حديث لا زالت الشعوب المسلمة تعاني تحت وطأته.

إن قضية الاسترجاع الفعلي للهوية الوطنية أخذت مكانة مركزية ليس في كتابات الدكتور فقط، وإنما في نضاله المستمر الذي انطلق قبل التحاقه بجامعة سان فرانسيسكو سنة 1953، فقد كانت لغته الأساسية هي الإنجليزية حيث بقي غير قادر على التحرير الجيِّد باللغة العربية، وهو ما كان وراء شرف مساعدته في التحرير خلال الأشهر الأخيرة من حياته، وهي التجربة التي استفدت منها كثيرا، ومع ذلك فإنه لم يعادِ القيم الإسلامية واللغة العربية كما فعل ويفعل إلى اليوم الذين لا يعرفون من العالم غير فرنسا، كما أنه لم يزايد باللغة العربية والقيم الإسلامية ويتخذ منها سجلا تجاريا وواجهة لقضاء مآربه ومصالحه الشخصية، فلم يركبها مطية ينادي بها من حين إلى حين ويسكت عنها بعد قضاء الحوائج، بل بالعكس كانت ومازالت له مواقف عملية فعلية استهلها قبل أزيد من نصف قرن من الزمن.

يتميز المرحوم كمؤرخ بموضوعيته، لأنه لم يرتبط بأي حركة أو تيار سياسي أو ديني بخلاف غيره، فجهاده ونضاله بدأ مباشرة من خلال جبهة التحرير الوطني، باعتباره كان السباق لطرح القضية الجزائرية أمام الأمم المتحدة باسم الجبهة، فهذه الحيادية الإيجابية هي التي جعلت كتاباته وآراءه غير مستساغة عند البقية.

مصباح يضيء طريق الباحثين عن الحقيقة

إن الآلام التي تعرَّض لها المجاهد رابح بلعيد لم تكن مقتصرة على تهميش شخصه في الحياة السياسية بل وصل الأمر إلى متاعب خطيرة عبر تحدِّيات فرضتها شخصيته الرافضة للأبوة المفروضة بالقوة والمزورة والتي ظل الشعب الجزائري يعاني من آثارها وأخطارها وانعكاساتها، فمآسيه وآلامه لم تبدأ بالمحاكمة الشهيرة التي تعرّض لها في مرحلة معينة، بل بدأت منذ أن جهر برأيه منددا بالردة الثقافية والتربوية والسياسية التي حاولت أطرافٌ فرضها على الساحة الوطنية عبر طابور خامس يتحرك بإيعاز من مصدِّري حضارة السلب والرق والنهب وما تهدف إليه من تكريس للتبعية الاستعمارية وتشكيك الشعب في هويته واستقلاله. لقد ظل قلما جريئا وكتابا مفتوحا ومصباحا يضيء طريق الباحثين عن الحقيقة، وسار على المنهج الذي رسمته له عبقريته وأكدته مسيرته النضالية الجريئة، كان يدرك ببصيرته النافذة وتجربته الغنية أن الحياة عقيدة وكفاح ونضال، فقد خاطب أعضاء المكتب السياسي سنة 1963 مبيِّنا الأخطار التي تحدق بهوية الأمة الجزائرية التي كافحت لاسترجاع هويتها الحقيقية، هذه الأخطار التي تتمثل في التيار التغريبي الفرنكوفيلي الجاثم على رقاب الشعب في الإدارة والمنظمات التي تتكلم باسم الشعب وتدعي تمثيل الوطن، قال في رسالته: “لو كنتم سادتي كمناضلين- ولا أشك في نضالكم- حاضرين في بن عكنون خلال شهر سبتمبر 1962 أثناء المؤتمر الخامس لاتحاد طلابنا لما حسبتم أنفسكم في أرض الجزائر المستقلة الجديدة في بداية عهدنا الجديد، بل كنتم تظنون أنكم موجودون في فرنسا، إن 90 % من الطلبة الحاضرين لولا الدم الجزائري الذي يجري في عروقهم لما اعتبرتموهم جزائريين؛ فبجانب استقلالنا فقد ورث شعبُنا طبقة مثقفة خارجة تماما عن وجوده الأصيل وإذا شئنا قلنا إن شعبنا قد ورث من فرنسا فئة من الأفاعي هدفها هو امتصاص دم شعبنا بالإضافة إلى السمِّ الاجتماعي الذي صدَّرته فرنسا”.

ناضل الدكتور بلعيد من أجل تكريس مبدإ وطنية ورسمية اللغة العربية في دواليب السلطة والإدارة حتى إنه غير ما مرة توجه بالنقد إلى بعض المسؤولين لاستعمالهم الفرنسية في حديثهم الرسمي أو في الوثائق الرسمية. ومن بين المواقف التي تحسب له في أحد الاجتماعات التي عقدها مجلس الأساتذة لتقييم بعض القضايا العلمية، لم يتوان رئيس الجلسة في الحديث باللغة الفرنسية، وتبعه آخرون.. ما أثار حفيظته من البداية، معطيا ملاحظة في هذا الإطار حين قال لرئيس الجلسة: “يجب احترام العلم الذي وُضع على المكتب، ويجب الامتناع عن الحديث بلغة المستعمر في هذا المقام”.

خاطب بلعيد أعضاء المكتب السياسي سنة 1963 مبيِّنا الأخطار التي تحدق بهوية الأمة الجزائرية التي كافحت لاسترجاع هويتها الحقيقية، هذه الأخطار التي تتمثل في التيار التغريبي الفرنكوفيلي الجاثم على رقاب الشعب في الإدارة والمنظمات التي تتكلم باسم الشعب وتدعي تمثيل الوطن، قال في رسالته: “لو كنتم سادتي كمناضلين- ولا أشك في نضالكم- حاضرين في بن عكنون خلال شهر سبتمبر 1962 أثناء المؤتمر الخامس لاتحاد طلابنا لما حسبتم أنفسكم في أرض الجزائر المستقلة الجديدة في بداية عهدنا الجديد، بل كنتم تظنون أنكم موجودون في فرنسا، إن 90 % من الطلبة الحاضرين لولا الدم الجزائري الذي يجري في عروقهم لما اعتبرتموهم جزائريين؛ فبجانب استقلالنا فقد ورث شعبُنا طبقة مثقفة خارجة تماما عن وجوده الأصيل وإذا شئنا قلنا إن شعبنا قد ورث من فرنسا فئة من الأفاعي هدفها هو امتصاص دم شعبنا بالإضافة إلى السمِّ الاجتماعي الذي صدَّرته فرنسا”.

دافع رابح بلعيد عن زعيم حزب الشعب وبّين بالدليل والحجة والبرهان أن مصالي أيد الثورة المسلحة بمجرد اندلاعها عبر رسالة أرسلها إلى كريم بلقاسم مع مبلغ كبير من المال عبر هنري بوليت، وهو مناضل تروتسكي، وقال حينها مخاطبا هذا الأخير: “يا هنري، هل بإمكانك السفر إلى الجزائر فورا؟” ووافق هذا الأخير وحمّله رسالة إلى كريم بلقاسم فحواها: “هناك خلافٌ حاد بيننا، ولكن الآن الثورة اندلعت وعلينا أن ننسى هذا الخلاف ونهتم بالثورة”. هذا مصالي الحاج الذي أعاد الاعتبارَ له عبد العزيز بوتفليقة بعد وصوله للرئاسة، دافع عن مصالي منذ عقود وفي مرحلة معينة لم يكن فيه الواحد قادرا على أن ينبس باسمه ولو همسا.

saoudisalah4@gmail.com

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!