-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع
الشروق العربي تتجول في سوق الأعشاش بواد سوف..

سوق الأعشاش بواد سوف ..تراث عالمي منذ القرن 16

الشروق أونلاين
  • 12939
  • 2
سوق الأعشاش بواد سوف ..تراث عالمي منذ القرن 16

“واد سوف” مدينة كتبت التاريخ القديم على طريقتها، مدينة الألف قبة وقبة، عاصمة الرمال الذهبية، ذات التاريخ الضارب في الأعماق. “واد سوف” التي ربط الباحثون معناها بقبيلة “مسوفة” التارقية البربرية. وما ذكره ابن خلدون، يفيد أن هذه القبيلة مرت بهذه الأرض وفعلت فيها شيئا، فسميت بها، وتوجد الآن بعض المواقع القريبة، من بلاد التوارق تحمل اسم سوف، ولها دلالة جغرافية لارتباطها ببعض الخصائص الطبيعية للمنطقة. وفي اللغة العربية نجد كلمة “السوفة والسائفة” وهي الأرض بين الرمل والجلد، وعندما تثير الريح الرمل تدعى “المسفسفة” وهذا ما جعل أهل سوف يطلقون على الرمل “السافي”. سرنا في سوف وأشير علينا بأقدم سوق في المدينة، وهو الذي يحوي المدينة القديمة “سوق الأعشاش”، وهو من أقدم الأحياء في المنطقة، سمي كذلك، لأنه كان عبارة عن بيوت صغيرة تشبه الأعشاش.

الحي بما فيه السوق، مصنف ضمن التراث العالمي، ويحوي رحبة اليهود التي استقرت فيها أكثر من 32 عائلة يهودية، إلى غاية الاستقلال. ناهيك على أنه من أهم المعالم الأثرية، والتاريخية بالولاية، حيث تعود نشأة هذا الحي العتيق إلى القرن 16م عندما هاجر “العش بن سليمان” إلى وادي سوف، في حدود القرن السادس عشر ميلادي. وقد ساهم أهل الطرود في تأسيس الحي، وتوسعته ليمتد ويتسع أكثر. الشغل الأساسي لليهود برحبة اليهود في سوق الأعشاش هو العمل الحرفي، كـ”القرداش”، وهو غزل الصوف بآلة يدوية اسمها “القرداش”، و”الذهب” و”الفضة” و”النحاس”.. مع وجود تجار يبيعون المواد الغذائية واللحوم لكافة السكان.

 انطلقنا ناحية السوق، هنا تتزاحم الأصوات مع المحال، مع الناس، مع الزمن، في آن واحد. هنا تخلع نعليك الملطختين بآهات الحياة، وضجر الأيام، وروتين المدن الكبيرة، وتنتعل آخرين بعيدا عن أفكارك، إنها دعوة للتجريب، دعوة للابتعاد عن المألوف، لتسير في أروقة ضيقة متلاحمة مع بعضها، حيث تتزاوج الحجارة مع أقرانها. تسابقك اللحظة بأسئلتها هل هناك من يحفظ هذا التراث؟ كيف يحبك قصته ويحمي حضوره؟

الإسكافي، اللحام، الخياط، العشاب، الطباخ.. كلها حرف تطل عليك بمحلاتها ودكاكينها الضيقة القديمة، أشخاص لم يلتحفوا رداء التطور، بل حموا حروفا توارثوها أبا عن جد. هم أصليون في تفكيرهم الذي لا حدود له. طيبون بمحياهم وابتسامتهم العفوية، كرماء كلهم جود وسخاء وعطاء، حين يتعلق الأمر باستضافة واستقبال. عند أولئك الحرفيين تعبق رائحة المواد في دكاكينهم، وتأخذك الروائح الطيبة، في أول الزقاق لتأخذك في نهايته، عند “طبّاخ” مثلا تفننت أنامله الخشنة في تحضير، ألذ طبق عرفت به المنطقة منذ زمن وذاع صيته، ووصل إلى العنان إنه طبق “الدوبارة” وهي أنواع: “دوبارة حمص”، “دوبارة فول” أو “مزيج من الاثنين”، وأحتفظ بتفاصيل الوجبة الشهية لنفسي، علني أبعث فيكم حماس فضول التذوق، أو قد تقودك روائح ذكية إلى دكان “عشّاب” أصبح محله لفرط ما فيه، غابة بأكياس مكتنزة بأعشاب، وعقاقير، وبهارات لا شك في فائدتها، ولا شك في صدق بائع لا يغالي لتشتري إنه فقط يعطيك بطاقة فنية عن كل عشبة، ويجزل الجواب لأسئلة، تتدفق في وجهه دفعة واحدة. وفي إحدى الزوايا لفت انتباهي شيخ، يبيع مشروبا وهو يهتف مرة وأخرى: “حُلُوُ”، “حُلُوُ”، المشروب يباع هنا منذ أن كانت المنطقة لليهود، إنه “اللاقمي الميت” الذي اشتهرت العائلات اليهودية ببيعه، لم تستهون فكرة تذوقه رغم إلحاح البائع الذي كان يؤكد لي أن هذا الذي يبيع هو “اللاقمي الميت” وليس “الحي المسكّر”، تركته وأنا أتمتم لا حي ولا ميت، شربة ماء أفضل. في ركن آخر تجذبك الألوان وقد اصطفت بعناية، لتبهرك وهي تشكل لوحة فسيفسائية رائعة. إنها لفافات الصوف بعد أن غزل وأصبح خيوطا بألوان زاهية ُتستغل لغزل البرانس، والمعاطف الصوفية.

  سوق الأعشاش يحكي تاريخه على طريقته، تقرأه عبر حروف يفككها الزمن، ويعيث فيها، بل وينهيها يوما بعد يوم، بسبب هجرة الشباب لها تنحصر في الكبار اليوم فقط. قد يكون من الغباء في حضرة هذا الإرث الحرفي تجاهل الأسباب التي تمزق الحرف إربا، والتي يقع في مقدمتها التكبر عليها، ويليها عدم الرعاية الحكومية لها.

على تخوم السوق وبينما أنت منشغل في البحث عن تاريخ واد سوف التي عايشت الرومان، إذ عثر على قطع تعود إلى عهد ماسنيسا، وإلى عهد الرومان “نيرون”، وأخرى للعهد النوميدي، “يوغورطا ويوبا الثاني”  بمنطقة قمار. كما استقر الوندال في أرض سوف أيضا. وحاول  البيزنطيون إحكام سيطرتهم على السكان إلا إن قبائل نوميديا فجرت الثورة، وقد شارك فرسان سوف في المقاومة الشعبية ضد خط الدفاع البيزنطي، وقاد الثورات زعماء من البربر الذين أضعفوا الحكم البيزنطي فتهاوى بسهولة وسقط لما قدم الفاتحون المسلمون.

ينقشع أمامك كل هذا الزخم التاريخي والحضاري، بنمط معماري مميز أملته الظروف الطبيعية أحيانا، وثقافة وأهل المنطقة كذلك. وهو امتداد للطابع المعماري العربي، والإسلامي كالأعمدة، والأقواس والقباب والتيجان.

 تجتاز السوق العتيقة ومعها تجتاز أفول زمن بكامله. هنا في حضرته تلمس أصالة البناء من الدكاكين القديمة، وأبوابها الخشبية القديمة الطراز، إلى الأزقة الضيقة الطويلة المتعرجة، التي تتراص على جوانبها البيوت الحجرية، ذات الطراز القديم، وبلاط الأزقة المنزلق نحو التاريخ العتيق المسكون في أقبية حجرية ودكاكين حرفية. تبدو السوق قطعة فسيفسائية، معتقة بألوان تقتحمها فجأة، كل منها وليد حركته وزقاقه، ما أعطى السوق العتيقة مكانة متميزة.

في قلب سوق الأعشاش بواد سوف تكتب العديد من القصص، منها: ترابط العيش، وتلاحمه، الكل يتعارف هنا، الزائر والمار معروفان من خلال تقاسيم المحيا والنظرات، التي يوزعها أصحاب السوق عليه. فلا بد لك أن تلحظ حجم الألفة بين سكانه وحجم الألفة مع المكان. حميمية المكان،  صياح الباعة، وحركة الزوار، تلك الصورة تدفعك لترسم حكاية أخرى عن هذه الحياة البسيطة غير المتكاملة في آن واحد. فيما تخيم على تلك الصورة قصة تبدو معتمة، وتمتزج بأسئلة كثيرة: هل هناك من يرمم السوق؟ من يحمي المنازل القديمة؟

تترك سوق الأعشاش يرسم تاريخه اليوم، على مزاجية الحياة التي لم تعد تأبه إلا للوجاهة، والفخامة. تستمع لباعته بإتقان، وهم يقرأون عليك تراتيل الصحة والهناء، لتعود يوما ما ضيفا كريما على أهل سوف.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
2
  • amina

    اريد معرفة كيف نشئ السوق من البداية الى النهاية و ماهي خصائصه ؟

  • أبوبدر

    لواختصرت الموضوع في السؤال الأخير :هل هناك من يرمم السوق؟ من يحمي المنازل القديمة؟
    وأضيف هل هناك من يرمم عقول السوافة .