أوكرانيا بعد ثلاث سنوات على الحرب: بين مطرقة موسكو وسندان واشنطن

تمضي اليوم الاثنين، ثلاث سنوات على غزو روسيا للأراضي الأوكرانية، في أكبر صراع عرفته أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية، هي الحرب الدموية التي لم تتوقف منذ انطلاقها صبيحة يوم 24 فيفري 2022.
من الصعب تحديد الخسائر البشرية لدى الطرفين بدقة، لكن وفقا لتقرير نشرته صحيفة “وول ستريت جورنال” في 17 سبتمبر 2024، وصل عدد الأوكرانيين والروس الذين قتلوا أو جرحوا في الحرب آنذاك إلى نحو مليون شخص.
ووفقا للصحيفة، نقلا عن أشخاص مطلعين، قدرت أوكرانيا سرا في وقت سابق من عام 2024 أن عدد القتلى في صفوف قواتها بلغ 80 ألفا، بينما بلغ عدد الجرحى 400 ألف. أما تقديرات الاستخبارات الغربية لخسائر روسيا فتختلف، حيث تشير بعض التقديرات إلى أن عدد القتلى قد يصل إلى 200 ألف، فيما يقدر عدد الجرحى بنحو 400 ألف.
أما الأمم المتحدة، فقد قدرت في إحصائياتها أنه ومنذ بداية الحرب، فر أكثر من 6 ملايين شخص من أوكرانيا.
كما دمرت الهجمات الروسية بالصواريخ والطائرات المسيرة أجزاء كبيرة من شبكة الطاقة الأوكرانية، بما فيها محطات توليد الكهرباء، وهو وضع يصعب الحياة على الأوكرانيين ويدفعهم لمغادرة البلاد.

طفلان يبلغان من العمر 14 عامًا يلعبان على الأراجيح في مدرستهما السابقة في خاركيف، شمال شرق أوكرانيا، بعد أن دمرها القصف. صورة: UNICEF/Kristina Pashkina
يرى المحلل السياسي نبيل كحلوش أن هذه الحرب انعكست على العلاقات الدولية إذ رفعت نسبة الاستقطاب بين روسيا والغرب، ما “تجلى في التصويت الأول بالأمم المتحدة حول مسألة إدانة روسيا”، كما غلبت القوى لصالح الصين “التي تربصت بضعف روسيا وأوروبا على حد سواء، فقد قامت بتعزيز نفوذها مع روسيا مقابل مواصلة دعمها اقتصاديا وتكنولوجيا. بالإضافة إلى ذلك، وضعت الحرب الولايات المتحدة الأمريكية في موقف تفاوضي أقوى من خلال دفع الغرب إلى زيادة اعتماده على الدعم المالي والعسكري الذي تقدمه واشنطن، مما أدى إلى إضعاف الموقف التفاوضي الأوروبي مقابل ذلك.”
على أرض المعركة، تواصل روسيا تقدمها في الأراضي الأوكرانية على جميع محاور الجبهة الممتدة على مئات الكيلومترات، كما تتحضر لتطوير هجومها باتجاه الغرب الأوكراني لضم المزيد من المناطق الأوكرانية.
بين عامي 2022 و2025، تمكنت روسيا من السيطرة على 20% من الأراضي الأوكرانية في الجنوب والشرق، أي ما يقرب من 110,000 كيلومتر مربع، وفقا لتقرير “إذاعة فرنسا“.
من موسكو، صرح المحلل الاستراتيجي، آصف ملحم لـ”الشروق أونلاين” أن “القوات الروسية تتقدم على معظم محاور الجبهة ولكن بحركة بطيئة، إلا أنها تكبد القوات الأوكرانية خسائر كبيرة للغاية. فمعركة الاستنزاف هذه جعلت أوكرانيا تدفع بقوات كبيرة جدا إلى معظم محاور الجبهة بهدف ضبط الجبهة أو إيقاف زحف القوات الروسية. فعلى سبيل المثال، في الصيف الماضي، دخلت أوكرانيا مقاطعة كورسك الروسية واحتلت بقعة صغيرة من هذه المقاطعة تصل مساحتها إلى 1200 كيلومترا مربعا، ولكن تمكنت روسيا من طرد القوات الأوكرانية من تلك المناطق واسترجعت أكثر من 60%، مما قلص البقعة المحتلة الآن من طرف القوات الأوكرانية إلى 400 كم مربع”، بعد أن فقدت أوكرانيا العديد من جنود النخبة الذين قاموا بالتوغل في العمق الروسي.
فرضت بروكسل وواشنطن عقوبات اقتصادية على روسيا لكن تأثيرها على الاقتصاد والمواطنين في روسيا كان محدودا، ما يشرحه ملحم: “نقطة ارتباط الاقتصاد الروسي بالدول الغربية هو تصدير المواد الزراعية والمواد الغذائية وموارد وحوامل الطاقة، ولكن روسيا وبعد قطع هذا الخط مع الدول الأوروبية بدأت تبحث عن أسواق جديدة لتصريف منتجاتها.”

كاريكاتير: باقي بوخالفة (الشروق)
ووجدت البديل في الهند، والصين، وتركيا والعالم العربي. ما جعل أثر هذه العقوبات مؤقتا، وتمثل في التضخم وغلاء بعض المواد الاستهلاكية، إضافة إلى منع تصدير بعض المواد الضرورية إليها من أدوية وبعض مستلزمات الإنتاج الزراعي.
تأثيرات هذه الحرب لم تقتصر فقط على الاقتصاد الروسي، بل تجاوزته إلى الاقتصاد العالمي. فيرى كحلوش أن “من أبرز الانعكاسات الاقتصادية للحرب هي تأثر إمدادات الغذاء والطاقة، وهذا منح للجزائر فرصا استثمارية واعدة مع أوروبا من جراء تراجع إمدادات الغاز الروسي. كما منح لتركيا فرصا كبيرة في صفقات الحبوب وكذا الطاقة عبر البحر الأسود. ولكن التأثير السلبي تمثل في تداعيات العقوبات الغربية على روسيا والتي تسببت في ارتفاع أسعار الطاقة والغذاء بشكل سريع في العام الأول من الحرب داخل أوروبا، وهذا ما تسبب في ارتفاع أسعار العديد من المواد حول العالم بسبب ارتفاع أسعار الكلفة كالشحن مثلا.”
إضافة إلى هذه الانعكاسات الاقتصادية، كانت للحرب انعكاسات سياسية. فعلى مستوى دول الجنوب العالمي، يشير كحلوش “وجدت العديد من الدول الإقليمية مثل تركيا والجزائر والسعودية أدوارا جديدة تتمثل في السيطرة على محيطها الإقليمي أكثر بعد تراجع الدور الغربي فيه. إذ اضطلعت تركيا بصفقة الحبوب في البحر الأسود، أما الجزائر فعززت من دورها في أزمات مالي وليبيا والنيجر بسبب الفراغ والانكماش الذي تركه التراجع الفرنسي، وكذا السعودية التي عززت من علاقتها مع الشرق والغرب على حد سواء إثر الضعف الذي تخلل السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط بعد الحرب الأوكرانية.”
في الوقت الذي تطلب فيه كييف المزيد من الأسلحة، رد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بالرفض مطالبا أوكرانيا بمنح أمريكا استثمارات في مجال المعادن النادرة وهذا تعويضا على المساعدات الأمريكية السابقة.
تعد أوكرانيا واحدة من الدول التي تمتلك إمكانيات هائلة من احتياطات المعادن، حتى النادرة منها.
ووفقا للتقديرات، يبلغ الاحتياط الأوكراني للمعادن حوالي 15 تريليون دولار، 62 % منها يشكلها الفحم الحجري، و14 % منها يشكلها الحديد، كما تمتلك الأراضي الأوكرانية النفط والغاز، الليثيوم، الجرمانيوم، الغرافيت، اليورانيوم، البيريليوم، الزركونيوم، الطانطاليوم، النيوبيوم، الفاناديوم، الغاليوم، والإسكنديوم. وهي معادن ذات أهمية استراتيجية وصناعية، وعسكرية.

جانب من اللقاء الأمريكي الروسي على مستوى وزراء الخارجية، والذي عقد بالعاصمة السعودية الرياض يوم الثلاثاء 18 فيفري 2025.صورة: الأناضول.
الأسبوع الماضي، وبمبادرة من ترامب، احتضنت العاصمة السعودية الرياض، يوم الثلاثاء 18 فيفري، اجتماعا أمريكيا روسيا، بغية تطبيع العلاقات الثنائية بين موسكو وواشنطن، ووضع حد للحرب.
المحلل ملحم يعتقد أنه لا يجب التعويل كثيرا على هذه المفاوضات، وإذا كانت واشنطن هي المبادرة إليها فهذا يعني أن الحرب أصبحت لا تقدم فوائد لها، “الولايات المتحدة الأمريكية قادرة على تقديم المزيد من الأسلحة لأوكرانيا ولكن القيام بذلك، خاصة بعد تغيير العقيدة النووية الروسية، وبعد تجربة الصاروخ الجديد ‘أورييشنيك’ قد يؤدي إلى مواجهة مباشرة بين روسيا والولايات المتحدة وهذه المواجهة ستكون مدمرة”.
ويضيف ملحم أن أوكرانيا عاجزة عن التقدم في جبهة القتال في حين يستمر الجيش الروسي في قضم المزيد من الأراضي الأوكرانية.
لكن بعد ثلاث سنوات من الحرب، حتى الجيش الروسي “متعب”، ويعاني من “بعض الثغرات والأخطاء والمشاكل”، مثل المؤسسة الصناعية العسكرية في روسيا التي تحتاج إلى الوقت لضبط هذه المشاكل.
كما أن روسيا بحاجة إلى وقت لإعادة تأهيل البنية التحتية للمناطق الواسعة من أوكرانيا التي استولت عليها.
المحلل يعتقد كذلك أن الولايات المتحدة استغلت حالة العداء بين موسكو وكييف، واستخدمت أوكرانيا كورقة لمواجهة روسيا، وهو ما ظهر في مفاوضات الرياض حيث دعي لها فقط اللاعبان الرئيسيان وهما الولايات المتحدة وروسيا.
ملحم يرى أن هذه المفاوضات ليست سوى مناورة يحاول فيها كل طرف الحصول على مكاسب. فيقول: “هناك اعتقاد في الولايات المتحدة الأمريكية بأن سبب قوة التحالف الصيني الروسي الإيراني الكوري الشمالي هو الحرب الروسية الأوكرانية لذلك فإن تبريد هذه الجبهة سيساعد الولايات المتحدة الأمريكية في تفكيك هذا التحالف من جهة، كما أنها ستكسب صوت روسيا في معارك أخرى”، مشيرا أن الصراع لن يعرف نهايته، لكن مجرد نهاية لمرحلة من مراحله.
وحسبه، فترامب حين يتساءل عن مصير الأموال الأمريكية المقدمة إلى أوكرانيا، فإنه لا يفعل ذلك لأنه يجهل أين ذهبت بل لأنه يريد عبر أسلوبه الابتزازي والاستفزازي للطرف الأوكراني الحصول على مزيد من المكاسب.
وإذا هدأ الصراع في هذه المنطقة، ومع المنافسة بين أمريكا وروسيا، فإنه سيصخب في مناطق أخرى.
وهو ما يشرحه لافتا: “عندما يطالب ترامب على سبيل المثال بغرينلاند التي تبعد عن نوفايا زيمليا، وهي أرخبيل موجود في المحيط المتجمد الشمالي تابع لروسيا، وفي هذه المنطقة تجري روسيا تجارب نووية وتبعد عن غرينلاند 1700 كم، في حين مدى صواريخ توماهوك حوالي 2000 كم”.
اليوم، وبعد ثلاث سنوات من الحرب، يقول ملحم: “كل طرف يمتلك ما يكفي من الأوراق ضد الطرف الآخر.”
ففي الوقت الذي تحتاج فيه أوكرانيا إلى استراحة لإعادة تأهيل جيشها وإعادة توطين الصناعات العسكرية الغربية في بلادها، يحتاج الاتحاد الأوروبي إلى موارد الطاقة وضخ الغاز الروسي الرخيص، بينما تسعى الولايات المتحدة إلى المزيد من الاستثمارات وتعزيز استحواذها على أسواق الطاقة.

الدرون الأوكراني “مصاص الدماء” (الملقب بـ”بابا ياغا” نسبة إلى ساحرة من الفولكلور السلافي)، وهو طائرة بدون طيار عسكرية أوكرانية مزودة بكاميرا حرارية، أنجزتها شركة أوكرانية في 2023، تستخدم ليلا في الحرب الأكثر استخداما للطائرات المسيرة. صورة: ويكيبيديا.
كما أن روسيا قد تتمكن من استعادة أموالها المجمدة في البنوك الغربية، وقد يُسمح لها بضم الأراضي التي سيطرت عليها خلال الحرب. إضافة إلى ذلك، فإن مكامن الثروات المعدنية الأساسية والمعادن الأرضية النادرة في أوكرانيا تقع في المناطق التي تسيطر عليها روسيا أو بالقرب من الجبهة، مما يجعل استثمارها من قبل واشنطن مرهونا بموافقة موسكو. كما أن ظروف الحرب تمنع أي شركة في العالم من المخاطرة بالاستثمار في هذه المناطق.
وهذا يجعل التهدئة ضرورية لجميع الأطراف المتضررة من الحرب.
وحتى الولايات المتحدة، ورغم كونها أكبر المستفيدين، قد تجد نفسها مضطرة إلى إخماد نار الحرب في أوكرانيا في ظل الوضع العالمي الحالي والتنافس مع الصين.
ومع ذلك، يعتقد المحلل آصف ملحم أن أي اتفاق يخرج به الأطراف المتنازعون حاليا سيكون “هشًا للغاية”، تماما مثل اتفاقيات مينسك التي صيغت عام 2014.
مما كشفه أيضا هذا الصراع هو الخلل الذي يعرفه المنتظم الدولي، ما يجعل من الضروري “إصلاح هياكل النظام الدولي وعلى رأسه مجلس الأمن الذي لم يتمكن من ضبط التوازن بين طرفي الصراع، إضافة إلى تحول المؤسسات المالية لمجرد وسيلة بين أيدي الأطراف المتصادمة مع فقدان البديل المالي، فضلاً عن حالة الاستقطاب الحادة بين الدول التي مزقت نسيج العلاقات الدولية بتحويل الجغرافيات إلى مسارح للحروب بالوكالة”، يشير المحلل نبيل كحلوش في حديثه مع “الشروق أونلاين“.