“كيف يفكّر الغرب…”؟
صدر حديثًا عن مركز الفكر الاستراتيجي للدراسات كتاب”كيف يفكر الغرب؟”، وهو مؤلف جماعي من إعداد إلهام الحدابي و مطهر الصفاري وسهام الدريسي و أحمد الصباغ.
خَطَت مراكز الأبحاث والتفكير خطوات متقدمة في عملية صنع القرار داخل الأنظمة السياسية في الدول الغربية، واستطاعت أن تحجز لنفسها مكانة في أروقة الحكم، سواء من خلال ما تنتجه من دراسات في مجالات شتى تحيط بجوانب المشكلات المختلفة التي تواجه قادة الدول، أو الاستشارات التي يقدمها الباحثون في تلك المراكز، فضلا عن ارتقاء بعضهم مناصب مسؤولية مهمة. وقبل الوصول إلى هذا المستوى مرت مراكز الأبحاث والتفكير بمراحل عديدة؛ كانت في بداياتها بعيدة كليا عن صورتها الحالية، حيث اقتصرت في إرهاصاتها الأولى على الانشغال بقضايا بحثية محددة في إطار برامج جامعية أكاديمية وفي مقدمتها الحقل الديني والدراسات الأنثروبولوجية للمجتمعات في الحقبة الاستعمارية، ثم بدأت تستقل هيكليا وتنظيميا عن الجامعات، لاحقا؛ وخلال الحربين العالميتين، شهدت مراكز الأبحاث نقلة نوعية في الولايات المتحدة الأمريكية، عندما تأسس أول مركز تفكير عني بالبحث في سبل تحقيق السلام على المستوى الدولي، حيث تزايدت أعدادها، ثم بدأت تتخصص أكثر في مواضيع محددة، وتقدم حلولًا وتوجيهات أثبتت نجاعتها، مما جعل الاهتمام بها يتزايد سواء في المؤسسات الرسمية أو غير الرسمية.
بعد أن أظهرت قدرتها على استشراف الكثير من المشكلات واقتراح الحلول المناسبة لها؛ أَوْلَت الكثير من الدول الغربية أهمية كبيرة لمراكز الأبحاث والتفكير وأسست الحكومات العديد منها، وحتى الأحزاب السياسية أنشأت لنفسها مراكز أبحاث خاصة بها، تضع لها السياسات والبرامج والخطط للمنافسة في الانتخابات. ومع ظهور الشركات المتعددة الجنسيات، اهتمت بدورها بهذه المؤسسات البحثية وقدمت لها الدعم المادي. تلت ذلك موجة عالمية انتشرت فيها مراكز الأبحاث في كل القارات؛ حيث جرت محاكاة لهذه التجربة في دول العالم الأخرى التي أنشأت بدورها مراكز أبحاث تقوم بأدوار مماثلة.
توجد حاليا آلاف مراكز التفكير التي تشتغل في كل المجالات، كالصحة والتعليم والخدمات والتنمية والصناعة، غير أن أكثرها حضورا واهتماما هي المراكز التي تهتم بمواضيع السياسة الخارجية والعلاقات الدولية، وقد حصل في سياقات العولمة والتشبيك تفاعل بين مراكز الأبحاث المختلفة في العالم، حيث أسست فروعا لها في مناطق مختلفة، فتعاونت في تنظيم ندوات ووِرَش عملٍ مشتركة لدراسة قضايا محددة غالبا تتقاطع مع اهتمامات الدول التي تنتمي إليها، وأضحت بذلك مراكز التفكير نفسها محل دراسة ومتابعة علمية؛ حيث تناولتها الكثير من الأبحاث والدراسات في أعرق الجامعات، ولعل أهم مشروع في هذا الإطار “برنامج مراكز التفكير والمجتمعات المدنية (TTCSP)” الذي استحدثته جامعة بنسلفانيا، وبدأت منذ 2006 في إصدار تصنيف سنوي لأفضل مراكز التفكير بالاعتماد على جملة من المؤشرات، وقامت بمراجعتها تبعا للتغيرات الحاصلة في هذا المجال.
نتج عن كل هذه التطورات والتحولات في أدوار مراكز الأبحاث والتفكير ووظائفها، أن ظهرت أشكال مختلفة منها، تتمايز بعضها عن بعض من حيث البناء أو الوظائف أو الاختصاص الموضوعي والمناطقي.
وفي سياق التصنيف على أساس المناطق والأقاليم توجد الكثير من مراكز الأبحاث في العالم التي تهتم بدراسة المنطقة العربية تحت مسميات مختلفة، أهمها الشرق الأوسط؛ كونه المصطلح الأكثر تداولا في الأوساط الأكاديمية العالمية، على الرغم مما يشوبه من محاذير موضوعية؛ وهذا يرجع إلى أهمية المنطقة العربية، سواء الجيوسياسية أو الجيواقتصادية أو الجيوثقافية، وقد أظهرت الكثير من الأحداث أن صياغة استراتيجية القوى الدولية والإقليمية تتم داخل هذه المراكز التي راكمت -خلال عقود- معرفة معمقة بالمنطقة العربية، تعتبر استكمالا للدراسات الاستشراقية سابقا.
باشرت الدول العربية بدورها الاهتمام بمراكز الأبحاث، وإن كانت ما تزال ضعيفة، وانتهجت في ذلك طرقاً مختلفة، سواء بفتح فروع لمراكز الأبحاث العالمية أو تأسيس مراكز خاصة بها. تواجه هذه المؤسسات الكثير من التحديات، بعضها مماثلة لتلك الموجودة في الدول الغربية على غرار سؤال الموضوعية فيما تنتجه من أبحاث، ومدى تأثر مخرجاتها بالأطراف الممولة لها، وإن كانت مثل هكذا قضايا موجودة حتى وإن لم تحل، إلا أنها أكثر وضوحا في حالة مراكز التفكير الغربية؛ حيث تعرف بتوجهاتها الأيديولوجية وتوجهات الجهة الممولة لها، إلا أنها في الحالة العربية أكثر غموضا وارتباكا. وهناك مشكلات أخرى تتصل بخصوصية الدول العربية وأنظمتها السياسية، فإذا كانت مراكز التفكير في الدول المتقدمة تعمل على توجيه صانع القرار نحو المعالجة الموضوعية والأنسب للقضايا محل اهتمامها، مع القيام أحيانا بمهمة تسويق سياسات ما لخدمة مشروع السلطة السياسية، من خلال ما تقوم به النخب المنتمية لها من مؤتمرات وندوات ومقابلات وحوارات، وما تنشره من دراسات عبر منصاتها أو غيرها من وسائل العلام والاتصال، إلا أنه في الحالة العربية تسير العلاقة في اتجاه واحد يتمثل في تبرير قرارات السلطة بغض النظر عن مدى رشادتها، وتكون مراكز الأبحاث مجرد ديكورات لهذا الغرض دون أي تأثير على مسار الأحداث وصناعة القرار.
أهمية الدراسة
تتمحور أهمية هذه الدراسة في تقديم قراءات من داخل الواقع البحثي العربي، ومعايِشة لأغلب المتغيّرات للعديد من المنشورات التي تعكس في مضامينها الأشكال الجديدة المعتمَدة لدى القوى الدولية لتطويع الإنتاج الفكري البحثي كقوّة ناعمة، كما تفتح قضايا أخرى متشعِّبة، مثل: التمويلات، الدولة العميقة، المقولات السياسية والأيديولوجية، شرعنة الهيمنة الغربية على المنطقة العربية، وغيرها من الأجندات ‘الخفية’، إضافة إلى أن الدراسة تسعى في فصولها إلى منح المتلقي العربي (قارئ/صانع قرار/إعلامي…) قراءة لمضامين وتمثّلات المراكز البحثية الغربية الرائدة دوليا حول قضايا المنطقة العربية (الربيع العربي/الإسلاميين/تغيير الأنظمة/ الديمقراطية…) بتفكيك مقاصدها وخلفياتها والتفكير في أجنداتها (مقاربة نقدية).
إشكالية الدراسة
تتمحور إشكالية الدراسة حول الخلفيات الناظمة لسياسات القوى الغربية تجاه المنطقة العربية -من خلال تمثلاتها لها -والتي تسهم في نسجها العديد من الأدوات، ومن بينها مراكز التفكير التي تعكس بعض أنماط تفكير صانع القرار الغربي، وتطرح السؤال الرئيسي التالي: كيف يفكر الغرب في قضايا المنطقة العربية من خلال مراكز الدراسات الغربية؟
تتفرع عن هذه الإشكالية جملة من التساؤلات تتمثل فيما يلي: ما هو دور مراكز الأبحاث الغربية في صناعة وتحديد التوّجهات الكبرى للسياسات الخارجية لدولها؟
من تمثّل آراء ووجهات نظر مراكز التفكير الغربية؟ هل تمثّل مواقف النخبة المثقّفة أو الرأي العام الغربي عموما أم تعكس أجندات ومطامع صناع القرار الغربيين في المنطقة العربية؟
ما هي ملامح المنطقة العربية في الفكر الغربي كمّا تحدده هذه المراكز؟ وما مدى درجة التسييس والانحياز الموجودة في تقاريرها وأشكال تعاطيها مع القضايا؟
هل يوجد تأثير خفيّ لهذه المراكز الغربية؟ وهل توجد أجندات لتوجيه الرأي العام العربي نحو قضايا معينة (التيارات الاسلامية/الاحتجاجات/الربيع العربي…) وإظهارها كمخاطر؟ أو الحلول الأنسب؟
ما هي أنماط التفكير الكبرى المحددة لتفكير الغرب في المنطقة العربية؟ هل هي استمرارية للماضي الاستشراقي-الاستعماري؟ أم هي إعادة تكريس لمفهوم الفوقية الغربية؟ أم هي مقاربات جديدة؟ وما دور المراكز البحثية ومراكز التفكير في هذا السياق؟
أدوات الدراسة
بهدف التفاعل الإيجابي مع مختلف الأسئلة البحثية الفرعية لهذه الدراسة، سيتمّ إجراء دراسات حالة مقارنة Comparative Case Studies بين مراكز الأبحاث العشرة الأولى لتصنيف بنسلفانيا 2018م، وستعتمد دراسة الحالة على ثلاث معايير أساسية: مستوى الإشعاع الدولي للمركز البحثي، الفعالية في صناعة الرأي العام والسياسات، مستوى الاهتمام المعمّق والمتواصل بقضايا المنطقة العربية.
كما تعتمد هذه الدراسة على التقصّي التاريخي لتطوّر مراكز الأبحاث وتزايد نفوذها في الدول الغربية بجانب تزايد اهتمامها بالمنطقة العربية، وكذلك، من المهمّ اعتماد تقنيات البحث النوعي والكيفي لتجميع وتحليل المضامين الخاصّة بالمنطقة العربية حسب تصنيفات ومواضيع محددة مسبّقا.
أهداف الدراسة
تسعى الدراسة لسدّ الفجوة المفاهيمية وحالات الخلط الموجودة في أغلب الأدبيات في المنطقة العربية حول مفهوم ومميزات وأدوار مراكز الأبحاث (مؤسسات الفكر).
كما تسعى لدراسة مراكز الفكر/البحثية الغربية كقوّة فاعلة داخل دولها وذات إشعاع عالميّ، بالتركيز على كيفية إدارتها للعلاقات المتشابكة بين السياسة الخارجية، المصالح الاقتصادية، الواقع الأمني والسياسي بالمنطقة، الخلفيات الأيديولوجية وأخلاقيات إنتاج المعرفة.
وتعمل على تحليل المضامين وطرق تفاعل المراكز البحثية وصناعتها للرأي العام الغربي تجاه المنطقة العربية، بتبني مجموعة متنوعة من مناهج التحليل مع مراعاة خصوصية كلّ فصل.
وتريد تحليل كيف يفكر الغرب في القضايا العربية التالية: تغيير الأنظمة، الحريات، التيارات الإسلامية، التيارات المسلحة، الدولة المدنية، الأحزاب الحاكمة، التوازنات، الميليشيات …الخ.
فصول الدراسة
تستفيض الدراسة في معالجة قضايا مراكز التفكير الغربية وتأثيرها على المنطقة العربية، وتتوزع على أربعة فصول، يتناول الفصل الأول الإطار المفاهيمي، وذلك بإجراء مراجعة للتسميات التي أطلقت على هذه المؤسسات وسياق تطورها والأدوار التي أنيطت بها ومهامها، والمعايير الدولية لتصنيفها بناءً على المنهجية التي اعتمدتها جامعة بنسلفانيا والمؤشرات التي حددت بها ترتيبها، وفضلا عن ذلك يقدم الفصل تعريفا بأهم عشرة مراكز دراسات على مستوى العالم، ويتطرق إلى نماذج من الولايات المتحدة وبريطانيا باعتبارهما من الدول التي تحتوي على أكبر عدد من مراكز التفكير على المستوى الدولي.
يعرج الفصل الثاني على المنطقة العربية مبرزا أهميتها الاستراتيجية لدى مراكز البحثية الغربية، وكيف تحولت إلى ساحة مفتوحة للباحثين الغربيين، وتأثير التطورات التي شهدتها المنطقة في العقد الأخير على اهتمامات مراكز الأبحاث تلك، كذلك يناقش دورها في رسم السياسة الخارجية للدول الكبرى من جهة، وتوظيفها كأداة من أدوات القوة الناعمة من جهة ثانية.
يتعمق الفصل الثالث أكثر في الموضوع، بإجراء تحليل مضمون مخرجات مراكز الأبحاث الغربية اتجاه المنطقة العربية، خاصة في المرحلة التالية للحركات الاحتجاجية الشعبية في المنطقة منذ 2011م، فيتوقف عند الأبعاد الأيديولوجية لمراكز التفكير الغربية وموقعها في استراتيجية القوى الكبرى بوصفها أدوات قوة ناعمة، كما يناقش العلاقة الارتباطية بين السلطة والمعرفة وكيف تخدم كل منهما الأخرى، ويسقط ذلك على الحالة العربية مبرزا أهم التصورات حولها قبل 2011، ثم يحلل مضمونها عقب ذلك متوقفا عند قضايا محورية على غرار مسألة التحول الديمقراطي والتشدد الديني، والحركات الإسلامية، وكيفية التعامل مع التحديات التي أفرزتها الانتفاضات الشعبية.
يستطرد الفصل الرابع في الإطار نفسه بوقوفه عند أنماط التفكير الكبرى المحددة لتفكير الغرب في المنطقة العربية، وذلك بمحاولة توضيح تأثير مراكز الأبحاث الغربية على خيارات السياسة الخارجية تجاه الإقليم العربي، وتناول ظاهرة مراكز الأبحاث الغربية في المنطقة العربية بوضع خارطة لأهم تلك المراكز ويستكشف أسباب الاهتمام العربي بها.