الرأي

آخر‮ ‬الكلام‮ ‬عن‮ ‬البوطي‮ ‬والقرضاوي‮ ‬والسديس

عابد شارف
  • 20095
  • 83

كل حرب تفرز صورا، وكل ثورة تترك رموزا. وقد تركت لنا “ثورة الياسمين” في تونس صورة ذلك الرجل الذي يمشي في الشارع ليلا وهو يصيح ويردد أن “ابن علي هرب”. وجاءت الثورة في ليبيا واحتفظنا عنها بصورة معمر القذافي وهو يهدد المعارضين أن يحصراهم “زنقة زنقة، دار دار”، ثم صورة نفس القذافي لما كان أعداؤه ينكثون به حيا ثم بجثته. وبقيت كذلك صورة أحد أبنائه مسجونا، قبل أن يتم تعذيبه، وتقطع يده، ثم اكتشفنا جثته. وأخيرا، تركت الثورة في مصر صورة الهجوم على ساحة التحرير من طرف “البلطجية” الذين كانوا يمتطون بعيرا، ثم صورة حسني مبارك‮ ‬مريضا،‮ ‬أمام‮ ‬العدالة‮.‬

وستترك الحرب الأهلية في سوريا صورة قاسية عن الأئمة الذين يبيحون دماء بعضهم، ويعلنون أنه لا بد من إعلان الفرح لموت أحدهم إن كان مخالفا. وكان هؤلاء رموز القيم الإسلامية والأخلاق. كانوا مراجع أمة تبحث لنفسها عن طريق يفتح لها أبواب الحضارة والقوة والكرامة. كانوا‮ ‬ركيزة‮ ‬يعود‮ ‬إليها‮ ‬العالم‮ ‬والطالب،‮ ‬ويستند‮ ‬إليها‮ ‬الفقيه‮ ‬والباحث،‮ ‬ويثق‮ ‬في‮ ‬كلامها‮ ‬الغني‮ ‬والفقير‮. ‬

لكن في ربيع سنة 2013، تحول إمام قناة الجزيرة محمد القرضاوي، والمرحوم سعيد رمضان البوطي، وإمام الحرم الشريف السديس، تحولوا إلى رموز الفتنة، ونموذج الاختلاف، وجسدوا المأزق الذي وصلت إليه الحرب الأهلية في سوريا، وبصفة عامة، المأزق الذي يوجد في العامل العربي.

وقال القرضاوي من أعلى منبر قناة “الجزيرة” أن اغتيال رمضان البوطي أمر مشروع. وقد سبق للقرضاوي أن أصدر فتوى مماثلة في حق معمر القذافي. وقال القرضاوي: “الذين يعملون مع السلطة يجب أن نقاتلهم جميعا، عسكريين، مدنيين، علماء…. من يكون مع هذه السلطة الظالمة (…)‮ ‬فهو‮ ‬ظالم‮ ‬مثلها‮. ‬كل‮ ‬من‮ ‬يقاتل،‮ ‬فعليه‮ ‬أن‮ ‬يقاتل‮ ‬هؤلاء‮”.‬

وكان البوطي يختلف كثيرا عن القرضاوي، حيث كان كلامه هادئا متزنا، يدعو إلى السلم والتعاضد. وحتى في طريقة الكلام، كان البوطي يختلف، وقد التقيته في إطار مهني قبل مدة، وأذكر أنه كان يتكلم بهدوء بلهجة شامية جميلة. وأتذكر أن المفردات التي تأتي في كلامه تختلف جذريا عن الخطاب التقليدي عند الدعاة، فهو نادرا ما يتكلم عن الحرب والقتال والنار والسلاح والترهيب والعذاب وجهنم والقصاص وعذاب القبر، إنما كان خطابه يرتكز على التعامل الحسن الأخوة والمحبة والتضامن والتسامح والعطف على الآخرين. ويقول عنه أحد الأصدقاء أنه كان رقيق العاطفة‮ ‬كثير‮ ‬البكاء‮.‬

واغتيل رمضان البوطي في أحد مساجد دمشق أياما قليلة بعد صدور الفتوى. فعاد القرضاوي وقال البوطي كان “صديقي للأسف”، لكنه “خالف علماء سوريا عامة، ووقف مع النظام ضد شعبه إلى آخر جمعة… كنت أود له أن يهديه الله.. ظل الشيخ البوطي مع هذا النظام إلى آخر لحظة”. وحاول القرضاوي أن يثير الشك حول أسباب اغتيال البوطي، فقال أنه مات في “مسجد يوجد في منطقة آمنة لا يدخلها أحد إلا بعد تفتيش.. من قتل الشيخ البوطي.. أنا ضده لكن لا نقبل أن يقتل الناس في المساجد”.

ورغم أنه وجد من يسانده، فإن كلام القرضاوي أثار استياء كبيرا، مثلما ظهر ذلك على شبكة الإنترنت. وأصبح كلامه مطعونا فيه، وكان لا بد تدخل جديد يؤكد هذه الفتوى. فتدخل الإمام السيديسي، إمام وخطيب الحرم الشريف، ليصدر فتوى أكثر قساوة تجاه البوطي. وقال إن البوطي “من‮ ‬أئمة‮ ‬البدع‮ ‬والضلال،‮ ‬وبموته‮ ‬يخف‮ ‬الشر‮”. ‬واعتبر‮ ‬أن‮ ‬البوطي‮ “‬مجاهد‮ ‬في‮ ‬سبيل‮ ‬الشيطان‮ ‬بلسانه‮ ‬وبيانه،‮ ‬شريك‮ ‬في‮ ‬قتل‮ ‬ألوف‮ ‬المسلمين‮ ‬بتحريضه‮ ‬على‮ ‬قتلهم‮ ‬وتزيين‮ ‬ذلك‮”.‬

وأضاف السديس “إن “البوطي كان من رؤوس أهل البدع والضلال، وممن يزين للناس البدع ويغريهم بها، ويحذرهم من حق أهل السنة ويقبحه لهم، وقد ضل بسببه أمم لا يعلمهم إلا الله”. وأضاف أن البوطي قضى عمره “خادمًا للدولة النصيرية الملحدة، منافحا عنها في عهد الطاغية الهالك حافظ الأسد، وفي عهد الطاغية بشار”، كما أنه “حث جيش النصيري على إبادة المسلمين”، واعتبر أعضاء الجيش السوري “مجاهدين، قريبين من منزلة الصحابة”، ووتصرفهم كان “عملا صالحا وجهادا في سبيل الله”. ومن يتخذ هذا الموقف فهو، حسب السديس، “من أئمة الضلال، الذين يخف الضلال‮ ‬والشر‮ ‬بموتهم،‮ ‬وهذا‮ ‬مما‮ ‬يستبشر‮ ‬به‮ ‬كل‮ ‬مؤمن‮ ‬ويفرح‮”.‬

إن‮ ‬دخول‮ ‬الدعاة‮ ‬في‮ ‬السياسة‮ ‬يسيء‮ ‬إلى‮ ‬العمل‮ ‬السياسي‮ ‬مثلما‮ ‬يسيء‮ ‬تدخل‮ ‬أهل‮ ‬السلطة‮ ‬في‮ ‬الممارسة‮ ‬الدينية‮. ‬

كان رمضان البوطي نادرا ما يتكلم عن الحرب والقتال والنار والسلاح والترهيب والعذاب وجهنم والقصاص وعذاب القبر، إنما كان خطابه يرتكز على التعامل الحسن الأخوة والمحبة والتضامن والتسامح والعطف على الآخرين.

مقالات ذات صلة