-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

أعظم مادحٍ لأعظم ممدوحٍ

أعظم مادحٍ لأعظم ممدوحٍ

مَن مِن أئمة المسلمين وعلمائهم، وشيوخ الطرق الصوفية ومُريديهم، والشعراء، والكتّاب، وأساتذة الأدب.. وغير هؤلاء جميعا من لا يعرفون قصيدة “البُردة”، أو يحفظون بعضها أو كلها؟ ولكن كم من هؤلاء جميعا يعرفون اسم صاحب هذه القصيدة العصماء؟ وكم من هؤلاء “آلهؤلاء” يعرفون أصل صاحبها وقبيله؟

فأما معرفة القصيدة لا مِرْية في أن أكثر من ذكرتُ يعرفونها، حفظا أو سماعا في الموالد والمناسبات الدينية، إذ لم تنل قصيدة من الشهرة والذيوع ما نالته هذه القصيدة. وأما عدد من يعرفون اسم صاحبها -الإمام البوصيري- فهو أقلّ، وأقل منه من يعلمون أن صاحبها أمازيغي من قبيلة صنهاجة، ومن قلعة بني حمّاد بنواحي مدنية المسيلة بالجزائر، وما جعل أكثر الناس في المشارق والمغارب يجهلون أصله إلا نسبته إلى بلدة “بوصير” في مصر، حيث وُلد، لأن والده – فيما يبدو- استقر بها، وتزوج من إحدى بناتها.

والبُوصيري هو محمد بن سعيد بن حماد، وقد أشار إلى اسمه في قصيدة البردة، وتفاؤله به خيرا، حيث قال:

فإن لي ذمّج منه بتمسيتي   محمدا وهو أوفى الخلق بالذّمم

لقد اختلف الذين تناولوا حياته في تاريخ ميلاده، ولكن الراجح هو أنه رأى النور في 1 شوال من عام 608 هـ (7 مارس من عام 1212م) كما اختلفوا في تاريخ وفاته ومكانها، والراجح أيضا أنه توفي في سنة 696 هـ (1296م)، بالقاهرة، ويردّ على من ذهب إلى أنه توفي بالأسكندرية بأن الرّحالة المغربي عبد الله العياشي ذكر “أنه وقف في 1073 هـ على قبر البوصيري في القاهرة بالقرب من ضريح الإمام الشافعي”(1)

حفظ البوصيري القرآن الكريم، ثم انتقل إلى القاهرة، فطاف على حلق العلم في المساجد، فتلقى العلوم العربية، والشرعية، والسيرة النبوية الشريفة، وتردّد على مدينة الإسكندرية فتعرف على الصوفي الشهير أبي العباس المرسي، واتخذه شيخا.

لم يكن البوصيري من أسرة ميسورة الحال، فاضطر إلى أن يكدح كدحا لتحصيل رزق أهله، ومارس عدة أعمال كتعليم الصبيان، واتخاذ الكتابة للناس حرفة..

عالج البوصيري أغراض الشعر المعروفة، ولكن شهرته قامت على قصائده في مدح رسول الله – صلى الله عليه وسلم – حيث أنشأ فيه مجموعة من القصائد من بينها:

❊ القصيدة الهمزية، وسماها “أم القرى في مدح خير الورى”،

ومطلعها:

كيف ترقى رُقيّك الأنبياء   يا سماء ما طاولتها سماء

❊ القصيدة المحمدية، ومطلعها:

محمد أشرف الأعراب والعجم   محمد خير من يمشي على قدم

❊ القصيدة الهائية، ومطلعها:

الصبح بدا من طلعته    والليل دجا من وفدته

ولكن أشهر قصائده في مدح سدينا محمد – صلى الله عليه وسلم – هي قصيدة “البردة”، التي تسمى “الكواكب الدرية في مدح خير البرية”، التي اعتبرت “درّة ديوان شعر المديح في الإسلام”،”لما تميزت به من خالص الحب، وصادق المدح لرسول الله – صلى الله عليه وسلم – ومن سمو في معانيها، ويسر في وجوه صياغتها، ونبل في مقاصدها، مما جعلها تنال من الخطوة والشيوع والإعجاب لدى عامة المسلمين وخاصتهم مالم تحظ بمثله مديحة أخرى غيرها في غرضها على امتداد عصور تاريخ الأدب العربي(2)”، وهذا ماجعلها تحظى بشروح كثيرة تجاوزت 90 شرحا(3)، آخرها – فيما نعلم- لصديقنا محمد ابن سمينه – رحمه الله – الذي ختم به حياته.

ولم يقتصر الاهتمام بالردة على العرب فقط؛ بل تمت ترجمتها إلى عدة لغات منها الفارسية، والتركية والأوردية، والألمانية، والإنجليزية، والإيطالية، والفرنسية..

كماأن كثيرا من كبار الشعراء تأثروا بقصيدة البردة مبنى ومعنى، فراحوا ينسجون على منوالها، ويقلدونها، ومنهم محمود سامي البارودي، وعلي أحمد باكثير، وأحمد محرم، والشاعر الأرمني المسيحي ميشال ويرْدي الذي أسلم وجهه لله – عز وجل- ومما جاء في قصيدته مُخاطبا رسول الله – صلى الله عليه وسلم-

لو يتبع الخلق ما خلّدت من سنن     لم يفتك الجهل والإغواز بالأمم

مذاهب أحدثت في الأرض بلبلة    وأورثتنا بلايا الحرب والإزم

أحببت دينك لما قلت: أكرمكم       أتقاكم، وتركت الحكم للحكم

وقلت: إني هدى للعالمين، ولم        تلجأ للعنف، بل أقنعت بالكلم

ومن الشعراء الجزائريين الذين تأثروا بقصيدة البردة، وتفاعلوا معها، الشيخ محمد الأخضر السائحي، رحمه الله، الذي قام بتشطيرها، والأستاذ الصديق مبروك زيد الخير، الذي سمّي قصيدته “الحلة السندسية على نهج البردة الرضية، في مدح خير البرية”.

ولكن أشهر من تأثر بقصيدة البردة، وأبدع في النسج على منوالها هو أمير الشعراء أحمد شوقي في قصيدته التي سماها “نهج البردة”، معترفا بأنه لا يعارض بقصيدته البوصيري، ومؤكدا أن المادحين تبع لبوصيري، فقال:

المادحون وأرباب الهوى تبع           لصاحب البردة الفيحاء ذي القدم

مديحه فيك حب خالص وهوى        وصادق الحب يملي صادق الكلم

الله يشهد أني لا أعارضه          من ذا يعارض صوب العارض العرم؟

وإنما أنا بعض الغابطين، ومن      يغبط وليّك لا يذمم، ولا يلم

لقد نسب إلى البوصيري قوله سبب تأليفه لهذه القصيدة: “… أصابني فالجٌ (شلل) أبطل نصفي، ففكرت في عمل قصدتي هذه البردة، فعملتها، واستشفعت بها إلى الله في أن يعافيني، وكررت إنشادها، وبكيت، ودعوت، وتوسّلت ونمت، فرأيت النبي – صلى الله عليه وسلم- فمسح على وجهي بيده الكريمة، وألقى عليّ بُردة، فانتبهت ووجدت فيّ نهضة، فقمت، وخرجت من بيتي.. “(4).

لم يكن يُهِمني من هذه الكلمة أن أصدر حكما على الإمام البوصيري – رحمه الله، وغفر له – أو أخوض فيما انتقده عليه بعض العلماء في بعض أبيات من غلوٍّ في رسول الله – صلى الله عليه وسلم-؛ ولكنني أحببت أن أنبّه الناس وأذكرهم بأصل هذا الشاعر المبدع، الذي لم يمدح أحد بعد حسان بن ثابت رسول اللله – عليه الصلاة والسلام- مثل ما مدحه هذا الشاعر، الذي تنغرس جذوره في هذه الأرض الجزائرية. ولهذا أدعو المسؤولين إلى إطلاق اسمه على المساجد، والمؤسسات التربوية، وأدعو الأساتذة والمعلمين إلى تعريفه لتلاميذهم وطلابهم ليعرفوا أن هذه الأرض كما أنجبت أبطال السّنان، أنجبت فحول اللسان..

وهنيئا لشعبنا المسلم، ولأمتنا الإسلامية، وللإنسانية كلها بذكرى ميلاد سيدنا محمد – صلى الله عليه وسلم- رحمه الله المهداة، ووفّقنا سبحانه وتعالى للاقتداء بخير الخلق كلهم، ورحم أعظم مادح لرسول الله – صلى الله عليه وسلم- محمد بن سعيد بن حماد، الصنهاجي، المسيلي الجزائري.

 

————

 

1- محمد ابن سمينة: قصيدة البردة للإمام البوصيري، نشر: المجلس الإسلامي الأعلى. ص32

2 – المرجع نفسه.. ص 15

3- المرجع نفسه.. ص172

4- المرجع نفسه.. ص 62

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
9
  • Azzouz-A

    قصيدة البردة فيها غلو كبير و جل العلماء اعتبروا صاحبها وقع في شيء من الشرك ، بالفعل كثرة الحب للرسول جعلت المادح يعصي الممدوح فالرسول ـ ص ـ كان يقول لا تعاملوني كما عامل النصارى نبيهم انا عبد الله و رسوله في معنى الحديث،وقال لأبنته لا اغني عنك من الله شيئا وإذا انتشرت هذه القصيدة في الاوساط سنصبح كالشيعة الفرق فقط هم في ذكرى وفاة سيدنا الحسين ونحن في مولد افضل خلق المرسلين - وفي الجزائر الطرقيين فقط من يحفظونها

  • عبد الرحمن سرحان

    كان الإمام البشير الإبراهيمي وأخوه عبد الحميد بن باديس رحمهما الله يسخران قلميهما في إصلاح الشعب الجزائري. كانا ينفقان سواد ليلهما في التخطيط والتفكير وينفقان بياض نهارهما في المراقبة والتدبير، ولقد حاربا الطرقية والشعوذة وموالاة المحتل وهيآ الشعب الجزائري برمته وغرسا فيه الوطنية للذود عن وطنه من كل الآفات الظاهرة والباطنة ونراها اليوم تعود فيا ليت أستاذنا الفاضل وهو بقية من جمعية العلماء المسلمين يقتفي أثرهم فقد سئمنا من قراءة تراجم العلماء والأدباء وشرحه لشعر الشعراء بأغراضه الأدبية الفيحاء وقد ملئت صفحات شيخنا بالغث الكثير والسمين القليل وعذرا لشيخنا الفاضل على هذه الملاحظات وأحسبها في صميم العبارات.
    abderahmanserhane@hotmail.com

  • ناصح

    الحمد لله وكفى والصلاة والسلام على المصطفى خير الورى الذي حذَّر أمته من الغلو فيه وحثهم على الدفاع عن سنته ومنهجه القويم.

    من الكتابات التي أُعْجَبُ بها بين الحين والآخر ما يخطه يراع الأستاذ محمد الهادي الحسني، ويزداد إعجابي به سيره على خطى شيخه وشيخ المسلمين محمد البشير الإبراهيمي رحمه الله.

    وفي هذا اليوم الذي يستقبل فيه المبتدعة والعامة والطرقية الاحتفال بالمولد النبوي الذي لم يحتفل به سلفنا الصالح ولا أئمتنا المرضيون كتب الأستاذ مقالا في جريدة الشروق أشاد ونوَّه فيه بشاعر طالما انتقده الأئمة الغيورون على هذا الدين، وأشاد بقصيدته وعرَّف بها وزاده فخرا أن كان أصل ناظمها من صنهاجة ومن مدينة المسيلة إحدى مدن ربوع هذا الوطن الحبيب الجزائر.

    فليعلم الكاتب ـ عفا الله عنا وعنه ـ أنَّ الأرض لا تقدِّس أحدا وإنَّما يقدِّس الإنسانَ عملُه، كما نقل الإمام مالك في «الموطأ» عن سلمان الفارسي رضي الله عنه.

    وكان الأحرى بالكاتب أن ينتقد الشَّاعر ويبيِّن ما في بردته من المجازفات والغلوِّ الَّذي حذَّرنا منه الرَّسول الكريم صلَّى الله عليه وسلَّم في غير ما حديثٍ كقوله: «إيَّاكم والغلوَّ في الدِّين فإنَّما أهلك من كان قبلكم الغلوُّ في الدِّين».

    وقوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «لا تطروني كما أطرت النَّصارى عيسى ابن مريم، ولكن قولوا عبد الله ورسوله».

    وقصيدة البردة فتحت للأمة بابا عظيما من أبواب الشِّرك بالله، فأيُّ ذنب أعظم من الشِّرك والغلوِّ مهما أجاد قائله في بلاغته ولغته، فالعرب لم يكن أحدٌ أبلغ منهم ولا أشعر، ولم يشفع لهم ذلك عند الله أن أرسل إليهم محمَّدا صلى الله عليه وسلَّم ليبيِّن لهم التَّوحيد وينهاهم عن الشِّرك، وما كان له عليه الصَّلاة والسَّلام أن يردِّد أقوالهم الكفريَّة والشِّركيَّة لمجرَّد بلاغة القائل وحسن كلامه.

    وكان الأولى بالكاتب أن يحذِّر المسلمين من هذه البردة الدَّاعية للشِّرك الصُّراح والغُلوِّ غير المباح، وأن يقتفيَ سبيل العلماء النَّاصحين لهذه الأمَّة الَّتي كثر فيها الجهل بشرع الله، لا أن يسكت عن بيان الحق من أجل أن قائلَها من صنهاجة، فبئس وطنية وشعوبية تورث الجهل، والبعد عن دين الله، «دعوها فإنَّها منتنة»، وفي علماء الدِّين من المالكيَّة المغاربة والأندلسيِّين، القائمين بالذَّود عن الشَّريعة الغرَّاء وبيان الدِّين والتَّمسُّك بأصوله، غناء وفخر عمَّن حشر نفسه في زمرتهم، وأساء إلى أبناء ملَّتهم بالابتداع في الدِّين وإغواء المسلمين.

    سمَّى الكاتب مقاله: «أعظم مادح لأعظم ممدوح» وفي المقال قرن (مادحَه) بالصَّحابي الجليل الموحِّد حسَّان بن ثابت، فقال: «لم يمدح أحد بعد حسَّان بن ثابت رسولَ الله عليه الصَّلاة والسَّلام مثل ما مدحه هذا الشَّاعر».

    أقول: أين الثَّرى من الثُّريَّا، أيُّ عظمةٍ في تغيير أصول الدِّين، وإعطاء النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم صفات ربِّ العالمين.

    يقول البوصيري في هذه البردة:

    فإنَّ من جودك الدُّنيا وضرَّتها ومن علومك علم اللَّوح والقَلم

    فجعل الدُّنيا والآخرة من جود النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم وإعطائه وإفضاله، والله يقول: ﴿وَإِنَّ لَنَا لَلآخِرَةَ وَالأُولَى﴾.

    وجعل النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم يَعلم الغيبَ، والله يقول: ﴿قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ الله﴾.

    وقال: ﴿قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُون﴾.

    وروى البخاري في «صحيحه» عن الرُّبيِّع بنت معوِّذ قالت: دخل عليَّ النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم غداة بني علي فجلس على فراشي كمجلسك مني، وجويريات يضربن بالدُّفِّ يندُبن مَن قُتل من آبائهن يوم بدر، حتَّى قالت جارية: وفينا نبيٌّ يعلمُ ما في غد، فقال النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم: لا تقولي هكذا وقولي ما كنت تقولين.

    فلم يمنعه صلَّى الله عليه وسلَّم أن ينكر المنكرَ والغلوَّ كون قائله جارية صغيرة تقول الشِّعر الحسن، ولا يمكن أن يتأثَّر غيرُها من الصَّحابة بكلامها الباطل لصغرها وبُعدها عن العلم، لكن حماية لجناب التَّوحيد أنكر ذلك، فكيفَ إذا كان القائل يوصف بأنَّه أعظم من مدح الرَّسول صلَّى الله عليه وسلَّم بعد حسَّان بن ثابت، ألا يكون هذا دعاية لقراءة باطله والاقتداء به؟!

    والكاتب على علم ودراية بغلوِّ هذا المادح (العظيم)! إذ يقول معتذرا لعدم بيانه ما وقع فيه البوصيري من المخالفات: «لم يكن يهمُّني من هذه الكلمة أن أُصدر حكما على الإمام البوصيري رحمه الله وغفر له، أو أخوض فيما انتقده عليه بعض العلماء في بعض أبيات من غلو في رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لكنِّي أحببت أن أنبِّه النَّاس وأذكِّرهم بأصل هذا الشَّاعر المبدع ».

    أقول: عدم اهتمامك ببيان ما يقع في كلام هؤلاء من الغلو والشِّرك بالله، هو من عدم الاهتمام بالدَّعوة إلى التَّوحيد الَّتي سخَّرت جمعية العلماء كل إمكاناتها في هذا السَّبيل، وهؤلاء هم مفخرة الجزائر، قال الشَّيخ الإبراهيمي رحمه الله: «إنَّ شيوع ضلالات العقائد وبدع العبادات والخلاف في الدِّين هو الَّذي جرَّ على المسلمين هذا التَّحلُّل من الدِّين، وهذا البعد من أصليْه الأصليَيْن، وهو الَّذي جرَّدهم من مزاياه وأخلاقه حتَّى وصلوا إلى ما نراه، وتلك الخلال من إقرار البدع والضَّلالات هي الَّتي مهَّدت السَّبيل لدخول الإلحاد على النُّفوس، وهيَّأت النُّفوس لقبول الإلحاد، ومحال أن ينفذ الإلحاد إلى النُّفوس المؤمنة، فإنَّ الإيمان حصنٌ حصين للنُّفوس الَّتي تحمله، ولكن الضَّلالات والبدع ترمي الجدَّ بالهُوينا، وترمي الحصانة بالوَهن، وترمي الحقيقةَ بالوهم، فإذا هذه النُّفوس كالثُّغور المفتوحة لكلِّ مهاجم». [آثار البشير (4/201)].

    ويقول الشَّيخ مبارك الميلي رحمه الله: «إذا كان الاحتياج إلى معرفة الشِّرك شديدا، كان تعريف النَّاس به أمرا لازما أكيدا، وإذا كان الباعث على هذا التَّعريف إقامة العقيدة، فهو النَّصيحة المفيدة الحميدة، وليس الإرشاد إلى الخير النَّافع بأولى من التَّنبيه على الباطل الضَّار، بل كلاهما غَرض حسن وسَنن لا يغفل عنه السَّاعون في خير سُنن، وهذا ما حمل المصلحين المجدِّدين على الاهتمام بدعوة المسلمين إلى إقامة التَّوحيد وتخليصه من خيالات المشركين » [الشِّرك ومظاهره (ص 51)].

    ألِـهذه الأصول كان يدعو البوصيري في قصيدته حتَّى نجعله مفخرةً من مفاخر هذه البلاد؟! ألم تسمع قولَه:

    وكيف تدعو إلى الدُّنيا ضرورة من لولاه لم تُخرج الدُّنيا من العدمِ

    فالدُّنيا لم تخلق من أجل محمَّد صلَّى الله عليه وسلَّم، بل خُلقت من أجل إقامة التَّوحيد ونبذ الشِّرك وأهله، قال تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُون﴾.

    ألم تقرأ قولَه:

    فاق النَّبيِّين في خَلق وفي خُلُق ولم يُدانوه في علم ولا كرم
    وكلُّهم من رسول الله ملتمسٌ عرفا من البحر أو رشفا من الديم

    أين له من أنَّ النَّبيِّين عليهم السَّلام التمسوا علومهم من النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم لا وحيا من الله تعالى!! إلا أن يكون دليله كلام ابن عربي الصُّوفي والحلاَّج وغيرهما ممَّن أفنى علماءُ الجمعية أعمارهم وأقلامَهم في الرَّدِّ عليهم وبيان ما هم فيه من الشِّرك والشَّرِّ.

    وانظر إلى غلوِّ البوصيري في هذا البيت الَّذي فتح به باب الشِّرك ـ الَّذي هو بحر لا ساحل له ـ حيث قال:

    دع ما ادَّعته النَّصارى في نبيِّهم واحكم بما شئتَ مدحًا فيه واحتكم

    أليس هذا مخالفا لقوله عليه السَّلام: «لا تطروني كما أطرت النَّصارى عيسى ابن مريم، ولكن قولوا عبد الله ورسوله».

    كيف يكون عظيما عندك من يحلف بغير الله ويقترف ما نهى الله ورسوله عنه إذ يقول:

    أقسمتُ بالقمر المنشقِّ إنَّ له من قلبه نسبة مبرورة القسم

    والنَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم يقول: «مَن حلفَ بغير الله فقد كَفَرَ أو أشرك»، وسمع النَّبيُّ صلى الله عليه وسلَّم عمر يحلف بأبيه وهو في ركب فناداهم النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم: «إنَّ الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم فمن كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت».

    فلم تمنعه صلَّى الله عليه وسلَّم عظمة عمر أن ينهاه ويبيِّن له التَّوحيد الَّذي بعث من أجل تحقيقه وحمايته.

    وأين عظمة البوصيري في تخرُّصه وكذبه على نفسِه لمَّا قال:

    فإن لي ذمَّة منه بتسميتي محمَّدا وهو أوفى الخلق بالذِّمم

    فهذا فتح لباب المعاصي وترك للشَّريعة بمجرَّد أن يكون المقترف ممَّن سمِّي بمحمَّد، فكم من المحمَّدين لا يُحمَدون!!

    وأين عظمة من هو غارق في أوحال الشِّرك والمخالفات في قوله الَّذي تقشعِّر منه جلود الموحِّدين حين قال:

    يا أكرم الرُّسل ما لي من ألوذ به سواك عند حلول الحادث العمم

    أليس هذا مما يُسخط الرَّبَّ ويسخط رسولَه صلَّى الله عليه وسلَّم، أيكون مشركو العرب أحسن حالا من هذا الشاعر، ألم تسمع قولَ الله تعالى: ﴿فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُون﴾.

    أين إخلاص البوصيري من إخلاص هؤلاء، قال العلَّامة الشَّوكاني رحمه الله: «فانظر كيف نفى كلَّ ملاذ ما عدا عبد الله ورسوله صلَّى الله عليه وسلَّم، وغفل عن ذكر ربه ورب رسل الله صلى الله عليه وسلم، إنا لله وإنا إليه راجعون » [الدُّرُّ النَّضيد (ص 26)].

    وقال العلامة عبد الحميد بن باديس: «فقد قال صلى الله عليه وسلم: لا تطروني كما أطرت النَّصارى... الحديث.

    فنهانا عن إطرائه في المدح وهو المبالغة والغلو بوصفه بما لا يجوز كما غلت النَّصارى في عيسى عليه الصَّلاة والسَّلام فادَّعت فيه الألوهية ونسبت إليه ما لا يكون إلا لله، وبيَّن لنا طريق مدحِه صلَّى الله عليه وسلَّم بذكر كلِّ ما لا يخرج به عن كونه عبدا من كلِّ كمال، وبذكر كلِّ ما يليق برسالته من عظيم الخصال عليه وعلى آله الصَّلاة والسَّلام» [مجالس التَّذكير من حديث البشير النَّذير (ص 241-242)].

    إلى آخر ما جاء في هذه القصيدة الَّتي وصفها الكاتب بقوله: «التي اعتبرت درة ديوان شعر المديح في الإسلام »!!

    كيف تكون درَّةً وصاحبُها عظيما وهو غارقٌ في بحر من الشِّرك والغلوِّ الَّذي لم يأذن به الله، ألم يمدح أبو طالب النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم بحقٍّ وصدق من غير غلوٍّ فيه ولا إفراط، مع ذلك لم يشفع له ذلك أن يكون من أهل النَّار؟!

    قال ابنُ كثير رحمه الله: «وقد قدَّمنا ما كان يتعاطاه أبو طالب من المحاماة والمحاجَّة والممانعة عن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم والدَّفع عنه وعن أصحابه وما قاله فيه من الممادح والثَّناء، وما أظهره له ولأصحابه من المودَّة والمحبَّة والشَّفقة في أشعاره الَّتي أسلفناها، وما تضمَّنته من العيب والتنقُّص لمن خالفه وكذَّبه بتلك العبارة الفصيحة البليغة الهاشميَّة المطَّلبية الَّتي لا تدانَى ولا تسامى، ولا يمكن عربيًّا مقاربتها ولا معارضتَها، وهو في ذلك كلِّه يعلم أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم صادق بارٌّ راشد ....

    ولكن مع هذا لم يقدِّر الله له الإيمان لما له تعالى في ذلك من الحكمة العظيمة، والحجَّة القاطعة البالغة الدَّامغة الَّتي يجب الإيمان بها والتَّسليم لها، ولولا ما نهانا الله عنه من الاستغفار للمشركين لاستغفرنا لأبي طالب وترحَّمنا عليه». [البداية والنِّهاية (4/313 ـ 315)].

    ومن غريب ما في المقال ذكر الكاتب للسَّبب الَّذي جعل البوصيري يكتب هذه الأبيات في المدح بالباطل، ولم يذكر الكاتب القصَّة بكاملها؛ إذ يكفي الإنسان قراءتها حتَّى يعرف هراء هذا الرَّجل وبُعدِه عن العلم وأهله، فكيف يُلحق بركب العظماء؟!

    قال البوصيري: « كنت قد نظمت قصائد في مدح رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، ثمَّ اتَّفق بعد ذلك أن أصابني خِلْط فالج أبطل نصفي، ففكَّرتُ في عمل قصيدتي هذه البردة، فعملتها، واستشفعتُ بها إلى الله في أن يعافيني، وكرَّرت إنشادها، وبكيت ودعوت، وتوسَّلت ونمت، فرأيت النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم، فمسح على وجهي بيده المباركة، وألقى عليَّ بُردة، فانتبهت ووجدت فيَّ نهضةً؛ فقمت وخرجت من بيتي، ولم أكن أعلمتُ بذلك أحداً، فلقيني بعض الفقراء، فقال لي: أريد أن تعطيني القصيدة الَّتي مدحت بها رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، فقلتُ: أيُّها؟ فقال: الَّتي أنشأتها في مرضك، وذكر أولَّها، وقال: والله لقد سمعتُها البارحة وهي تنشد بين يدي رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، فرأيتُ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، يتمايل وأعجبته، وألقى على من أنشدها بردةً، فأعطيته إيَّاها، وذكر الفقير ذلك، وشاع المنام».

    أيُعظَّم من لا يُعظِّم شرعَ الله ولا يعظِّم رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم؛ فرسول الله عليه الصَّلاة والسَّلام أتقى لربِّه من أن يكون متمايلا تمايل السُّكارى!!

    قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «ثمَّ سبب قضاء حاجة بعض هؤلاء الدَّاعين الأدعية المحرَّمة أنَّ الرَّجل منهم قد يكون مضطرًّا اضطرارا لو دعا اللهَ بها مشركٌ عند وثن لاستُجيب له؛ لصِدقِ تَوجُّهه إلى الله وإن كان تحرِّي الدُّعاء عند الوثن شركاً، ولو استُجيب له على يَد المتوسَّل به صاحب القبر أو غيره لاستغاثتِه فإنَّه يُعاقَب على ذلك ويهوي في النَّار إذا لم يعفُ الله عنه، كما لو طلب من الله ما يكون فتنة له ... فكم مِن عبد دعا دعاءً غير مباح فقُضيت حاجته في ذلك الدُّعاء، وكان سبب هلاكه في الدُّنيا والآخرة ...» [اقتضاء الصِّراط المستقيم (2/698)].

    وختاما أقول: ألا فليبك من كان باكيا على غربة الإسلام والدِّين، ورحم الله الإمام الرَّبَّاني العلَّامة الطَّيِّب العُقبي ـ الَّذي تنكَّر لدعوته ودعوة أصدقائه كثير ممَّن يدَّعي اقتفاء آثارهم ـ حيث يقول: «إنَّنا نعتقد ولم نزل نعتقد في إيمان وإخلاص بأنَّ الدِّين وحده هو الَّذي ينهض بهذه الأمَّة حديثا كما نهض قديما، وبالدِّين فقط نصل إلى حيث نأمل ونبلغ كلَّ ما نرجوه ونتمنَّاه، والدِّين هو رأس مالنا الَّذي لا خسارة معه، ولا ندامة تلحقُ العاملين به والمعتصمين بحبله المتين، وإذن فالدِّين قبل كلِّ شيء». [جريدة الإصلاح العدد 46].

    وأذكِّر الكاتب بمقولة لشيخ المسلمين محمَّد البشير الإبراهيمي إذ يقول رحمه الله: «وأكبر جرحة دينيّة فيهم ـ عندي ـ إقرارُهم (أي مشايخ الطُّرق) لتلك الأماديح الشِّعريَّة الملحونة الَّتي كان يقولها فيهم الشُّعراء المتزلِّفون وينشدونها بين أيديهم في محافلهم العامَّة، وفيها ما هو الكفر أو دونه الكفرُ؛ مِن وصفهم بالتَّصرُّف في السَّموات والأرضين وقدرتهم على الإغناء والإفقار وإدخال الجنَّة والإنقاذ من النَّار، دع عنك المبالغات الَّتي قد تُغتفر، كلُّ ذلك وهُم ساكتون بل يعجبون لذلك ويطربون ويُثيبون المادح، علمًا منهم أنّ ذلك المديح دعايةٌ مثمرة تجلب الأتباع وتدرُّ المال. ولو كانوا على شيء من الدِّين لما رضوا أن يسمعوا تلك الأماديح، وهم يعلمون كذِبها من أنفسهم ويعلمون أنَّ فيها تضليلا للعامَّة وتغريرا بعقائدها». [سجل مؤتمر جمعية العلماء: (ص 39)]

    وقوله أيضا: «إنَّ أخوف ما يخافه المشفقون على الإسلام جهل المسلمين لحقائقه وانصرافهم عن هدايته، فإنَّ هذا هو الَّذي يُطمع الأعداء فيه وفيهم، وما يُطمع الجار الحاسدَ في الاستيلاء على كرائم جاره الميت إلا الوارث السَّفيه». [جريدة البصائر عدد 13].

    وقال عليه رحمة الله: «ونحن إذ نُنكر الفاسد من الأعمال والباطل من العقائد سواءٌ علينا أصدرت من سابق أم من لاحق، ومن حيٍّ أم من ميِّت؛ لأنّ الحُكم على الأعمال لا على العاملين» الآثار:1/174.

    والحمد لله رب العالمين.

  • سليم عبد الكريم

    السلام عليكم
    الاستاذ محمد الهادي الحسني السلام عليكم
    انا من احد بلدتك الاصلية وهي زاوية الهامل
    غبت علينا في مناسبة المولد النبوي الشريف
    وبما اني احد سكان زاوية الهامل الشريفة اتمنى لك ولنا جميعا ان يكون مولد النبي صلى الله عليه وسلم
    خيرا علينا وعلى الامة الاسلامية
    وهنيئا لشعبنا المسلم، ولأمتنا الإسلامية، وللإنسانية كلها بذكرى ميلاد سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم

  • عمر

    بارك الله فيك يا استاذنا الهادى و جزاك كل خير لما تمتعنا به فى كل مقالاتك.. واتمنى.. منك ..جمعها فى كتاب حتى نتمكن من ..قراءة..بل الاستمتاع.. بما قد فاتنا فى اعداد سابقة .

  • زنوبيا

    بارك الله فيك استاذنا الجليل عاى هذا المقال و هذه المعلومات القيمة و جعلك ذخرا لنا و للجزائر الحبيبة............كل عام و انتم بالف خير

  • محمد

    لقد خاب ظني بك يا شيخ واني اتعجب كيف انت من تلاميذ الجمعية وتشيد بقصيدة فيها ما فيها من شرك ووصف فيها للنبي لا تجوز له وتطره وتبلغه درجة الالوهية عجبت لك يا شيخ الا تعلم ان النبي نا ان نطره كما تطر النصارى عيسى لا ادري ماذا حد لك

  • ابو عبد القدوس

    بسم الله الرحمن الرحيم، اضم صوتي الى صوت الاستاذ الكبير الحسيني، يجب على وزارة التربية في مراجعة المناهج الدراسية لانها تقريبا مناهج مصرية، فنحن نقرأ كثيرا عن شعرائهم وادبائهم، بالرغم من ان الجزائر تزخر بكم هائل من فحول الشعراء والادباء والعلماء، لذلك وجب علينا جميعا ان نسلط الضوء على شخصياتنا التاريخية والدينية والادبية والفنية ، وذلك عبر البرامج الدراسية.....

  • بوسعادة

    بارك الله فيك يا صديق وابن بوسعادة انك عودتنا ان تزورنا في كل سنة مرة انت من خيرة ابناء الجزائر ولست ابن جيجل فقط لا تبخل علينا بزياراتك لبوسعادة هنيئا لنا بمولد خير الانام محمد صلى الله عليه وسلم ورحم الله امامنا البوصيري واطال الله في عمرك يا استاذنا