-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع
من قمة الخرطوم إلى تدمير غزة...ويعيد التاريخ نفسه

أيا زمنَ الهزيمة ما أشدَّ وطأَك وأطولَك!

أيا زمنَ الهزيمة ما أشدَّ وطأَك وأطولَك!
بد القادر حجار

هاهي نفس التحديات تتكرر، ونفس المعطيات السياسية ونفس الضغوط والإملاءات المحيطة بترتيبات عقد القمة العربية الطارئة التي يفترض أنها تعقد لنجدة أهل غزة ووقف سيل الحمم عليهم، لكن آلة التدمير الإسرائيلية تكاد تأتي على آخر غزاوي وقادة العرب لم يتفقوا على مكان عقد القمة بعد، لتأكد قاعدة أساسية في علاقة العرب ببعضهم وعلاقتهم بمصيرهم، مضمونها أن زمام الأمور لم يعد بيدهم كما كان يفعل أسلافهم الذين كانوا أنموذجا في مواجهة الكبار.

  • أشهد أن بلادي كانت السباقة في تنفيذ إلتزاماتها تجاه الفلسطين 
  • هذا هو الهاجسُ الذي يساكن عقولَ قادتنا آناءَ الليل وأطرافَ النهار، ولا أحدَ منهم يستطيع أن يقارنَ نفسه بفيدال كسترو، أو شافيز، أو رئيس بوليفيا الجديد، وهم في خاصرة أمريكا جغرافيا، وعلى بعد أميال من شواطئها، وها هم ما زالوا يتحدَّونها جهارا نهارا بشجاعة مواقفهم المستمدَّة من إرادة شعوبهم. وليتهم، والهواجس تغشِّي أبصارَهم، يتذكرون، وبالأمس القريب فقط، قادةً كانوا أنموذجا في مواجهة الكبار بعزيمة لا تقهر في إدارة الصراع، مع نفس القوى الغربية المتغطرسة المتعنجهة، وكانوا قادةً لنفس الشعوب، وهي يومها جاهلةٌ متخلفةٌ عكس وضعها الحالي، وهي على درجة عالية من الوعي والثقافة والتعليم، ليتهم تذكروا، عبد الناصر، وابن بلة، وبومدين، وحافظ الأسد، ونهرو، وتيتو، ونكروما، وسيكوتوري، وغيرهم. ولكن ماذا نقول لهم سوى هذه الصرخة من الأعماق: أيا زمنَ الرداءة والردة ما أتعسَك! أيا زمنَ التخافت والتهافت ما أبشعَك! أيا زمنَ الطوع والصوع ما أقبحَك! أيا زمنَ الهزيمة في القلوب والعقول ما أشدَّ وطأَك وأطولَك!.   
  •  كذا ذهب العربُ يا نبيل إلى قمة الخرطوم، وقد اتصلت أمريكا بدايةً بتحويل القمة إلى عاصمة عربية أخرى، ولكنها لم تُفلح، وضغطت على القادة العرب بعدم الحضور، ولكنها لم تنجح كلية، حيث حضر عددٌ معقول رغم الضغوط والتهديد، وكانت أخيرا تريد أن تكون رئاسة القمة لدولة عربية أخرى، كما فعلت مع القمة الإفريقية في الخرطوم، ولا يفوتني تقديم شهادة للقارئ اليوم، وللتاريخ غدا، بأن الرئيس بوتفليقة، وهو يستقبل السيد عمرو موسى، الأمين العام لجامعة الدول العربية، وبعد أن أصغى الرئيس بوتفليقة لمحدِّثه، وهو يعرض أمامه مطالبَ القائمة الأمريكية، فكان جوابُه فوريا وسريعا وحاسما :”إن القمة ستكون بالخرطوم، وأن الرئيس البشير، هو رئيس القمة العربية القادمة، وإني أحضر شخصيا فعاليات هذه القمة، حتى لا يتكرَّر ما وقع في القمة الإفريقية الأخيرة، ينعقد اجتماعُها بالخرطوم، وتُسنَد رئاستُها إلى دولة إفريقية ثانية”. وكنت وعبد العزيز بلخادم حاضريْن هذا اللقاء، وكم كان شعورنا واعتزازنا كبيرا بموقف الجزائر في مثل هذه الملمات، وفي وجه هذه التحديات، وكنت قبلها قد تلقيتُ تعليماتٍ فوريةً من طرف السيد الرئيس بوتقليقة، بعد إعطاء تعليماته لوزارتيْ الخارجية والمالية إلى تحويل المبالغ المستحقة عن التزامات الجزائر في العمل العربي المشترك، بأن أقوم بتسديد حصة الجزائر في مختلف المؤسسات العربية، ودعم السلطة الفلسطينية قبل قمة الخرطوم، وفعلا هو ما قمتُ به بصفتي سفيرا ومندوبا دائما للجزائر لدى الجامعة العربية، وكنتُ أرى على وجه الأمين العام، السيد عمر موسى، أثناء مقابلتي شيئا من الدهشة، وكثيرا من الابتهاج، وهو يرى الجزائرَ تدفع كل حصصها المحددة لسنة 2006، وكل المخلَّفات، ولكل المؤسسات والصناديق والمنظمات العاملة تحت لواء الجامعة العربية، وأنا أحاسب مسؤولي المالية بالجامعة أمامه على آخر مليم، وقال عمرو موسى بنشوة ظاهرة، تلك هي الجزائر، وذاك هو رئيسُها، وقد تعوَّدنا منها مواقفَ مشرِّفة في العمل العربي، مع شكر جزيل من طرفه نحو القيادة الجزائرية.
  • ذهبتُ يا بني إلى قمة الخرطوم، وأنا بهذا الانتشاء الاستثنائي في عملي الديبلوماسي، مواقفُ بلادي مشرِّفةٌ ومتحدية، والوفاءُ بالتزاماتها كاملا نحو أمتها، وهذا يسرني ويُزهيني، ويماشي نضالي الطويلَ من أجل عروبة الجزائر. ذهبتُ إلى الخرطوم، وبلادي ترأس القمة العربية، وقد تمت في عهد رئاستها سلسلةٌ من الإصلاحات على عمل وهياكلِ الجامعة لم تشهدها منذ إنشائها سنة 1945، من إنشاء برلمانٍ عربي، يُعد نقلةً نوعية من جامعة الحكومات إلى جامعة الشعوب كذلك من خلال ممثليها، إلى تكوين هيئة متابعة لتنفيذ القرارات، إلى قانون أساسي يحدِّد مجموعةً من الضوابط الرادعة لكل دولة تماطلُ أو تستنكف عن تنفيذ القرارات التي صادقت عليها، تتدرج بها من التنبيه، إلى الحرمان من التصويت، إلى المنع من المشاركة في فعاليات الجامعة، إلى تجميد العضوية، إلى درجة الإقصاء. ثم ذلك القرار الهام المتعلق بآليات التصويت من الإجماع إلى الأغلبية الموصوفة بالثلثين في القضايا الموضوعية الجوهرية، وبالأغلبية البسيطة في القضايا الإجرائية.
  • هنا تناهى إلى أبيك خبرُ مرضك المفاجئ كالصاعقة يا نبيل، وهو بالخرطوم في قمة عربية، يتدارس قادتُها أوضاعَ أمتهم، وهي تتهاوى بين الاختلال في النُّظم، والاعتلال في السياسة، والتخاتُل في المواقف، والاحتلال الأمريكي في العراق، والاغتصاب الإسرائيلي في فلسطين، والاقتتال العرقي في دارفور، والتناحر القبلي في الصومال، والتلويح الغربي بالقوة لاستباحة الوجود والحدود.
  • آهٍ يا ولدي من مرضك المباغت! ويا له من خبر كم كان مفزعا مؤلما سقط على رأسي صاعقةً هزَّتْ مني الكيانَ والوجدان، وأنا في خضم قمة عربية، منغمسا في جدول أعمالها ومشاريع قراراتها، قرارات تريدها أمتها مصَّداتٍ لرد هوج الرياح الآتية من الغرب، وخاصةً من أمريكا، غربٍ متجبرٍ متغطرسٍ أرعنَ أهوجَ يريد تركيع الجميع من بني قومنا جثاةً أمام نزواته وشراهة حيوانته، من أقصى أطلس العروبة الهادر إلى خليجها الزاخر بالخيرات والثروات، وكم كان أبوك، قبل ما تدنو به خطوات العمر حثيثا نحو الشيب والكهولة، يجد المتعةَ والقدرةَ على المقاومة في مناحي الحياة ومضانك العيش، في أهوال الثورة وغياهب السجون، في نتوءات السياسة والعقائد، في معارك الهوية والعروبة، في وعكات الصحة والاعتلال.
  • ومع كل تلك المنعرجات في الحياة، ظل أبوك يصادم ويقاوم، يثابر ويصابر، يكابد معاناةَ الابتلاء ويتحمل، يدوس بأعقاب النعال على نوازع الشراهة، أيِّ شراهة كانت، وهي غريزيةٌ فطريةٌ في كيان كل إنسان، كان يدوسها تحت أخمص الأقدمين إن دفعته حاجةٌ إلى مطمع أيا كان، أو توجَّست نفسُه غوايةً في مناصبَ مهما كانت مغريةً بالدُّر والدُّرر، ومهما كان الموقعُ بريقُه وهاجا، إلا ويرميه ويزدريه إن كان مناقضا أو معارضا لمواقفه ومبادئه، ويترفَّع عن هذا وذاك زهدا وقناعة، ويواصل السير على دربه السالك أو الشائك، ميسورا كان أم مقتورا، غير آبه ولا مبال.
  • آهٍ يا نبيل! لو كان جسمُ أبيك من حديد لذاب من صهد المواجهة وانطوى وتفاصم، لو كان قلبُه من فولاذ لأصابه الصدأ والبلى، فتهاوى كجذع نخل خاوية وارتطم، وكمْ وكم بذل أبوك من جهد شقي مضنٍ للتعامل مع ظروفه في قريته، وهو غر طري قبل أن يصلب العود ويشتد، فتحدى جفافَها، وجفوةَ طبيعتها، وتخلُّفَ أوضاعها، وكسَّر القيدَ الحديدَ المكبِّلَ لرجله، فتحرَّرتْ وسارتْ تختصر الوهادَ والفجاج، بعيدا بعيدا مخافةَ أن يلتحم القيد المكسَّر من جديد ويأسِر، وفكَّ الغُلَّ الطوقَ الخانقَ من حول رقبته، فتنشق الصدر الكظيم هواءً طلقا عند بزوغ فجر، أو نسيما عليلا عند مغيب شمس، وهو يرى الشفقَ محمرَّ الوجنات يودِّعها لمستقرها، وهي تتهادى نشوى فرحةً مرحةً بإنجازها في يومها الفارط، واستعدادها بهمة ليوم جديد في جهته، لأنها تواصل عملَها في مناطقَ أخرى من الأرض والأكوان بسطوعها لا تغرُب ولا تغترب، والليلٌ ديجورٌ قاتمٌ جاثٌم على قريته، خلافا لمناطقَ أخرى حتى داخل وطنه، وتلك عظمةُ النواميس الكونية، لا تُدرَك بالبداهة ولا بالبصيرة ولا بالحدس، لأنها بخلقتها ومهامها ودورانها الذي لا يتوقف حول نفسها، ودوران باقي الأكوان من منظومات سمائية أو أرضية حولها، شيءٌ أكبرُ من أن يحدَّ ويقدَّر، أسطورةٌ أعجوبةٌ فوق العقل والتصور والخيال، ولكن الفتى يبيت ليله سهدا وأرقا، أو نوما وحلما، منتظرا بشوق بزوغَها لتصابحَه غدا بخيوطها الذهبية، شلالا من ضياء، وسناءً من نور، ومنارةً تهديه السبيلَ القويم نحو الأفق الفسيح، وتُسعفه بنورها وخفوتها أحيانا، وبوهجها ولفحها أحايينَ أطولَ وأكدر، فيتحرَّك متوكِّلا على الله، مصمِّما بإرادة صلبة قُدَّت من ذلك الوادي الذي به وُلد وترعرع، ليشقَّ طريقَه الشائك لطي المفاوز والتلال بمنحدراتها، ويتسلَّق المرتفعاتِ المتعرِّجةِ بنتوءاتها، يبغي الوصولَ بجهد ومشقة إلى ذرى الجبال، كنسر عاف مجالسةَ الثرى بين أطيان قريته، فقرر الطيرانَ عاليا متعاليا في أجواء فسيحة، وقد استنبت جناحاه كلَّ ما يعينه من خوافٍ وقوادمَ على الطيران والصعود، إسراءً من ضائقة القرية إلى فسوح المدينة، ومعراجا إلى فضاءات أخرى من المعمورة أوسعَ وأرحب.
  • ولكن ما تكشَّف له من تلك العوالم التي اخترقها، وحلَّ بها، لا ضيفا مكرَّما مرحَّبا به في مدينة ما، بل اعتبره أهلها غازيا متخلِّفا، قد يجلب في عباءته ضروبا من الأوبئة والأمراض، وقد يحمل في رأسه صنوفا من التخلف والجهل، وقد يستصحب في ذهنه نزوقا من الجهالة والعناد، فنفر منه أهلُ الحاضرة، وقد حطَّ برحابهم بدويا بدائيا، أشعثَ الشعر، كاشحَ الخصر، أغبرَ اللون، فتوجسوا منه خيفةً على رقة عيش مدينتهم، ورونق جمالها، وخوفا من مهالعة غيدها، وهي مرحَى تتهادى دلالا وتيها بين شوارعها، فواجهوه بالردع قسوةً، وبالسخرية هزءا، حتى ينطوي وينزوي، علَّه يعود أدراجَه من حيث أتى، وقبل أن يتدبَّر الأمر، ويفكِّرَ في العود، وإذا بغريزة المقاومة التي جاء حاملا إياها بين أضلاعه، وروحِ المناكفة التي زوَّدتْه بها أساطير قريته، تأهبتْ للمقارعة والمصارعة، واستخرجتْ من جرابها سهاما ورماحا للمكافحة والمنافحة، ولأمر لا يدريه في رحم الغيب، وجد نفسَه غريبا فعلا وقولا في مدينة يستعديه كلُّ شيء في سلوك أقوامها، فقرَّر الصمود لفرض الوجود في معركة لم يختر مكانها ولا توقيتها، وظل على تلك الحال في مصادمة كل معتد أثيم، وكل مستهزئ لئيم، وكل متحدٍّ خصيم، وظل على وضعه ذاك فترةً من الزمن لا يهادن أو يلاين، لا يداري أو يماري، وكله استنفارٌ أمام أي خطر داهم، أو طارئ مباغت، وما أن تفحَّص ميدانَ المعركة حتى وجد دهرَه الهصور لم يترك له نافذة ولو كثقب الإبرة للنجاة، ووجد قانصيه قد أحكموا حوله الطوق، وسدَّوا أمامه أيَّ سبيل أو مخرج، وعمل قدرُه بدوره ما وسعه الجهدُ ليُغلق أمامه نوافذَ الأرض وأبوابَ السماء، حتى لا مندوحة أو وسيلةً بيده تُنقذه من الشراك المنصوبة في أيِّ مسلك يريده، ولا من الأحابيل المضروبة على كل شبر يُتوقَّع أن تطأه قدماه، ولولا صبُره وإيمانُه بخالقه، واعتقادُه فيه بأنه مُفرجٌ كربَه ذات يوم، والفتي عليم بالحدس أو بالاستنتاج بقدرية الدهر وجبريته، وأن ما يلاقيه في متاهات الحياة، هو أمر قضى في مكان ما من مشيئة الغيب وأُبرم، لكنَّ ثقتَه في العناية الربانية كانت كبيرةً بسعة الكون، معتقدا جازما بأنها تُنقذه بطريقة تعنُّ عن التصديق من براثن الهلاك المحقق، وفعلا، كان طوق النجاة الملقَى إليه، وهو في لجُج الأمواج العاصفة للوصول به إلى شاطئ الأمان، كأنه ضربٌ من الخوارق والمعجزات.
  • ولكن ما حيلتي هذه المرةَ يا نبيل، وها هو ذا القضاء يُصيبني فيك يرزأني، يا قطعةً من فلذة كبِدٍ مزَّقته المحنُ والإحن، ها هو ذا يفجعني في ولدي مرضا مباغتا بدون عوارضَ أو أعراض، وهو غضٌّ طري في ريعان الزهور من عمر الشباب، ها هو ذا قدري يباغتني عن غرة من أمري فيك يا ولدي، كما تعوَّد أن يفعل معي من قبل، ودون أن يُمهلَني برهةً للتهيؤ والاستعداد، ها هو ذا خبرُ مرضك ينزل علي كالصاعقة، يعصف بكينونتي، ارتجَّ علي حتى خشيتُ أني فقدتُ الاتزان، خبرٌ يأتيني من مهاتفة غير منتظرة، وأنا بالخرطوم على لسان الحاجة والدتك، أمِّك الملتاعةِ الخائفةِ المرتجفة، تُخبرني بصوت متهدِّج تخنُقه الزفرات، مصحوبا بهلع بيِّنٍ يقطع أنفاسَها، وبفزع مرتعش تبلِّلُه دموعُها، وبعبارات متلعثمةٍ لا تكاد تُبين: الحاج! نبيل مريض، وأن حالتَه الصحية في خطر، وأن الأستاذة باجي، طبيبةَ العائلة، والمختصةَ في الأمراض البطنية، تؤكد، بأن مرضه هو نسخةٌ من مرض عميْه الطاهر وأحمد، واللذيْن أُجريتْ لهما عمليتان جراحيتان خطيرتان ومؤلمتان، تمتْ بإزالة المعي الغليظ كلية، وأكَّدت الأستاذة باجي، بأن هذا النوعَ من المرض الذي ظهر في عديد من أفراد العائلة، هو مرض وراثي يجب اجتثاثه، قبل أن يتسع وينتشر، وأن مرضَ نبيل في حالة مزمنةٍ تستوجب إجراءَ العملية بالخارج بين أسبوع وعشرة أيام على الأكثر.
أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!