-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

إلى متى تُثار الفتن.. حول الرّخص والسّنن؟

سلطان بركاني
  • 3185
  • 0
إلى متى تُثار الفتن.. حول الرّخص والسّنن؟

لا يكاد يخلو مسجد من مساجد هذا البلد، في العقود والسّنوات الأخيرة، من نقاشات تحتدم في بعض الأحيان لتصل إلى جدال وخصام ترتفع معه الأصوات، في مسائل خلافية تتعلّق بآداب المساجد والطّهارة والصّلاة، وإن كان السّبب الرّئيس في هذه الخلافات والمشاحنات يتعلّق أساسا بغياب ثقافة الخلاف، إلا أنّ سلوك بعض الشّباب المتحمّس من طلبة العلم وافتقادَ كثير منهم الحكمةَ وعدمَ مراعاتهم خصوصيات الواقع حولهم، هو ما زاد الطّين بلّة، وتسبّب في نفور كثير من النّاس من هؤلاء الشّباب، الذين يصرّون على إثارة الخلاف في أماكن يفترض أن تنزّه عن اللّغط والصّخب.

بعض الشّباب تجد لديهم إصرارا منقطع النّظير على العمل ببعض الرّخص الشّرعية التي تحوّلت في موازينهم إلى سنن مهجورة ينبغي إحياؤها! مع عدم حاجتهم إليها ومع شدّة إنكار النّاس لها، كرخصة المسح على الجوربين التي يصرّ بعض المتحمّسين من إخواننا الشّباب على “إحيائها”! في كلّ مكان، بما في ذلك أماكن الوضوء في المساجد، مع أنّ الأحاديث الواردة في المسح على الجوربين كلّها لا تخلو من مقال، بل قد قال بعض العلماء: “لم يصحّ في المسح على الجوربين حديث مرفوع”، وعلى فرض صحّة بعضها، فإنّ المسح على الجوربين رخصة، والرّخصة في عرف الشّرع هي ما يستوي فيه الفعل والتّرك، وجمهور العلماء على أنّ غسل القدمين أفضل من المسح على الجوربين أو النّعلين، وتتأكّد الأفضلية إذا كان المتوضِّئ بين أناس قد يسبّب لهم المسح فتنة في دينهم، وترك المسح على الجوربين رغبةً في الأفضل والأحوط وبُعدا عن الخلاف، هو الأفضل والأحوط، والمفترض في المسلم أن يكون هذا ديدنه في مسائل دينه، لا يجعل الرّخصة في منزلة السنّة أو الواجب، فيفتن نفسه ويفتن النّاس من حوله، وفوق هذا لا يتسرّعُ في فهم السّنن الثابتة ولا يباشر العمل بها قبل العودة إلى أقوال أهل العلم في بيان هيئاتها وأوقاتها، ومن أمثلة ذلك، قول النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم “لولا أن أشقّ على أمّتي لأمرتهم بالسّواك عند كلّ صلاة”، هذا الحديث لا يدلّ أبدا على أنّ المصلّي يقف عند إقامة الصّلاة في الصفّ بين المصلّين ويخرج السّواك من جيبه ليستاك، فالحديث يرغّب في تنظيف الفم عند وقت كلّ صلاة، قبل الوضوء أو بعده، المهمّ أن يكون قبل القيام في الصفّ، لأنّ الاستياك من النّظافة، وقد يصاحبه خروج اللّعاب وبقايا الطّعام. فهو من أعمال التهيّؤ للصّلاة كالوضوء وليس من أعمال الصّلاة كالإقامة واستقبال القبلة، لذلك لم يؤثَر عن النبيّ -عليه الصّلاة والسّلام- ولا عن أحد من أصحابه أنّهم كانوا يستاكون عند إقامة الصّلاة، وقول النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم: “لولا أن أشقّ على أمّتي لأمرتهم بالسّواك عند كلّ صلاة”، هو في دلالته كقول الله جلّ وعلا: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ”، فلم يفهم أحد من هذه الآية أنّ المصلّي يقوم في الصفّ ويبدأ بغسل وجهه ويديه ومسح رأسه وغسل رجليه، لأنّ المراد من قوله سبحانه “إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ” أي “إذا أردتم القيام إلى الصّلاة”، كذلك المراد من قوله -عليه الصّلاة والسّلام- في الحديث “عند كلّ صلاة” أي “عند إرادة الصّلاة”، وقد ورد الحديث بلفظ آخر “لولا أن أشقّ على أمّتي لأمرتهم بالسّواك عند كلّ وضوء”. 

ومن الأمثلة أيضا إصرار بعض الشّباب على صلاة ركعتي تحية المسجد في الأوقات التي يكره فيها النّفل، وتعصّبهم لاختيارٍ فقهيّ يفيد بأنّ تحية المسجد واحدة من الصّلوات ذوات الأسباب التي تصلّى في كلّ وقت، ولا شكّ في أنّ هذا الاختيار لا يعدو أن يكون فهما وليس نصا شرعيا يحسم الخلاف، وأصل الخلاف في المسألة هو العموم والخصوص بين حديثين شريفين، أوّلهما يتضمّن حثّ من دخل المسجد بصلاة ركعتين قبل أن يجلس، وثانيهما ينهى عن الصّلاة بعد العصر حتى تغرب الشّمس وبعد الصّبح حتى تشرق الشّمس، فمن قال إنّ حديث النّهي عن الصّلاة في الوقتين عامّ وحديث الأمر بتحية المسجد مخصّص له، قال بجواز تحية المسجد في الوقتين، ومن قال إنّ حديث الأمر بصلاة ركعتين عند دخول المسجد عامّ، وحديث النّهي عن الصّلاة في الوقتين خاصّ، قال بالنّهي عن التحية بعد الصّبح وبعد العصر؛ فالمسألة اجتهادية، والمسلم في مثل هذه المسائل التي تتكافأ فيها الحجج ينبغي أن يراعي واقعه ولا يثير الخلاف والشّقاق في بيوت يُفترض أن تنزّه عن الخلاف والنّزاع.

لا شكّ أنّ عامّة المسلمين ملومون على ضيق صدورهم للخلاف في مسائل الفروع، والأئمّة قبل ذلك ملومون على تقصيرهم في تعليم رواد بيوت الله آدابَ الخلاف، لكنّ اللّوم الأكبر يقع على الشّباب المتحمّس.. لذلك فإنّنا نهيب بإخواننا الشّباب أن يتّقوا الله في بيوت الله، ويتحلّوا بالحكمة في التّعامل مع الواقع، فرُبّ رخصة يُعمل بها، أو سنّة يُراد إحياؤها، تؤدّي إلى نفور النّاس من السّنة التي أصبحت لصيقة في أذهان كثير منهم بمواقف متسرّعة من شباب متحمّس، يطلب الحقّ، لكنّه يُخطئ طريقه، و”على أهلها تجني براقش”.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!