-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع
ماذا لو متّ فجأة..

إلى متى تُهدر الأعمار؟

سلطان بركاني
  • 1914
  • 3
إلى متى تُهدر الأعمار؟
أرشيف

لا شكّ في أنّنا جميعا بدأنا نعدّ الأيام التي بقيت تفصلنا عن الشّهر الفضيل، وكلّنا تفاؤل بأنّ أيام رمضان لهذا العام ستكون أياما ربيعية يسهل فيها الصيام والقيام بعون الله الواحد المنّان.. لكن لعلّنا ننسى ونحن نعدّ الأيام لاستقبال شهر التوبة والغفران، أن نسأل أنفسنا ماذا قبل رمضان؟ كما نسألها دائما ماذا بعد رمضان؟ وننسى قبل هذا ونحن نرى كيف يحلّ رمضان ويرحل سريعا، وتتوالى الأشهر قبله وبعده في سرعة غريبة عجيبة، حتى أصبحت الأعوام تمرّ كما تمرّ الأشهر والأشهر تمرّ كما تمرّ الأسابيع والأسابيع كما تمرّ الأيام؛ ننسى أنّ أعمارنا هي التي تنقضي وتذهب بل وربّما تنزف سريعا ونحن لا نشعر.
نعم، إنّه نزيف الأعمار.. لا شكّ في أنّ كلمة “نزيف” مخيفة عندما يتعلّق الأمر بأجسادنا وأبداننا؛ فهي كثيرا ما ترتبط بالدّماء والحوادث المفاجئة.. لكن ماذا عن نزيف الأعمار؟ ماذا عندما يغفل الإنسان عن عمره وهو ينزف من بين يديه سريعا؟ ماذا عندما تمرّ بالواحد منّا الأيام والأشهر وتتوالى عليه الأعوام ويقترب شيئا فشيئا من قبره وهو لا يزال يعبث بعمره وأيامه؟
لو تأمّلنا أعمارنا لأدركنا أنّها في النّهاية هذه الأنفاس التي نأخذها ونخرجها، وهي هذه الدّقات التي تدقّها قلوبنا بعدد محدّد لا يعلمه إلا الله، ورحم الله أحمد شوقي حين قال:
دقّات قلب المرء قائلة * إنّ الحياة دقائق وثوان
أعمارنا في هذه الدّنيا قصيرة وأقصر ممّا نظنّ.. وتتقاصر أكثر بالغفلة عن الله والدّار الآخرة.. عمر الإنسان يكون مباركا إذا عمر ساعاته وأيامه بطاعة الله وذكره وشكره، وإيصال النّفع والخير إلى عباد الله، ولكنّه يكون عمرا نازفا إذا أهدر العبد ساعاته وأيامه في الغفلة والمعاصي والتّماهي مع حظوظ النّفس الفانية.
لحظة واحدة من عمر الإنسان قد تكون سببا في سعادته في هذه الحياة ونجاته بعد الممات، وقد تكون في المقابل سببا في موت قلبه وشقائه في الأولى والآخرة.. إبليس عندما أُمر بالسّجود لآدم –عليه السّلام- كان أمام لحظة فارقة في حياته، لم يحسن استغلالها، وأذعن لنوازع نفسه الأمّارة بالسّوء، وعصى الله في الملإ الأعلى، فحاقت به لعنة الله وحلّ به سخطه.. ظنّ اللّعين أنّ طول العمر سيؤخّر عنه مصيره ويبلّغه مراده، فقال: ((رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُون))، فكان له ما أراد وقال له الواحد الأحد: ((فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ * إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُوم)).. ربّما لم يعلم اللّعين أنّ عمره الطّويل سيكون وبالا عليه ما دام يقضيه في سخط الله وفي إغواء عباد الله.
جميعنا نتمنّى أن نعيش أعمارا طويلة مديدة، ويدعو بعضنا لبعض بذلك، لكنْ لنَكنْ على يقين بأنّه لن ينفع الواحدَ منّا أن يطول عمره إذا ساء عمله، ولن ينفعه أن يبلغ المائة أو يتجاوزها إذا كان قلبه قد علاه الران وأصبح قاسيا مظلما وكانت نفسه تسبح في مهالك الغفلة ولا تشبع من الدّنيا.
في مقابل ما حصل لإبليس، تأمّل معي أخي المؤمن هذا الموقف وتلك اللّحظة الفارقة التي عاشها رجل من خيرة أصحاب النبيّ عليه الصّلاة والسّلام.. إنّه عكاشة بن محصن، رضي الله عنه، كان في يوم من الأيام بين عدد من الصّحابة مع النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، فحدّثهم عن 70 ألفا من أمّته يدخلون الجنّة بغير حساب. هنا أسرع عكاشة -رضي الله عنه- وهو يتذكّر أنّه أمام نبيّ مجاب الدّعاء، فقال: يا رسول الله، ادع الله أن أكون منهم، فقال النبيّ عليه الصّلاة والسّلام: “أنت منهم”، فقال آخر: ادع الله أن أكون منهم. قال: “سبقك بها عكاشة”.. نعم سبقه بها عكاشة، في لحظة هي أسعد لحظات حياته، يوم فاز بدعاء النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم ليكون من السّبعين ألفا الذين يدخلون الجنّة بغير حساب.. تأمّل تلك اللّحظة المهمّة بين مسارعة عكاشة وبين التماس الصّحابيّ الآخر.. الصّحابيّ الآخر سيكون أيضا في الجنّة بإذن الله، لكنّها كانت لحظة تفصل بين دخول الجنّة بغير حساب وبين التعرّض للحساب والمساءلة.
هكذا هي بركة الأعمار، يوم يكون المسلم قناصا للفرص، مهتمّا بلحظات عمره، لأنّه لا يدري أيّ لحظة يحوز فيها رضوان الله، وهكذا هي الأمور مع الله، وهكذا هي الفرص والمنازل عنده جلّ في علاه؛ تفرق فيها اللّحظة وتؤثّر فيها التّسبيحة، وتقدّم المرءَ أو تؤخّره دعوة أو دمعة.. ربّما يستغلّ العبد المؤمن لحظة مهمّة في حياته، يسمع فيها موعظة أو يرى ميتا يدفن، فيرقّ قلبه، وتنزل دمعة من عينه يحاول إخفاءها عن النّاس، فتكون تلك الدّمعة سببا لنجاته يوم القيامة.. ربّما يسوقه المولى سبحانه في يوم من الأيام ليسير في طريق لم تكن له فيها حاجة، لا لشيء إلا ليلتقي فقيرا يشكو إليه فاقته وحاجته، فيخرج من جيبه صدقة خالصة يضعها في يده، تكون سببا لسعادته في الدّنيا والآخرة، بل ربّما يعترض طريقَ العبد حيوان ضعيف يكون قد بلغ به الجوع أو العطش مبلغه فيطعمه العبد أو يسقيه فتكون تلك اللّحظة هي الفارقة في حياته.. ربّما يسخّره الله ليقضي حاجة لوالدته ويدخل السّرور على قلبها فتحرّك شفتيها بدعوة صادقة تكون سببا في رحمته في الدّنيا والآخرة.. وربّما يجلس العبد المؤمن في خلوة مع نفسه فيتذكّر غفلته وتقصيره في حقّ مولاه، فيعتصر قلبه من النّدم، ويتمنّى لو يعود به العمر إلى الوراء ليصحّح أخطاءه ويتدارك غفلته، فيكون ذلك النّدم الذي وجده في قلبه لحظة فارقة في حياته، تكون بها سعادته ونجاته.
الأعمار تمضي سريعا، واللّبيب من عاش لحظات حياته يبحث عن أسباب نجاته.. صحابيّ النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، عكاشة بن محصن -رضي الله عنه-لم يوفّق لتلك الفرصة العظيمة، إلا لأنّه صدق الله وعاش حياته لله؛ كان من السّابقين إلى الإسلام، وأدرك مع النبيّ -صلّى الله عليه وآله وسلّم- المشاهد كلّها، وأبلى في غزوة بدر بلاء عظيما، حتى انكسر سيفه في يمينه.. شارك بعد وفاة النبيّ -صلّى الله عليه وآله وسلّم- في حروب الردّة وقاتل المرتدّين وكان في جيش خالد بن الوليد الذي توجّه لقتال بني أسد، واستشهد عكاشة -رضي الله عنه- يومها ولم يتجاوز من عمره 45 عاما.. لم يعش عمرا طويلا، لكنّه عاش عمرا مباركا، عرف قيمة أيامه ولحظاته، وكانت كلّ لحظة منها عمرا بالنّسبة إليه.
أعمارنا هي رأس مالنا.. وليس يليق بعبد لا يعلم كم يعيش في هذه الحياة وكم بقي له من عمره أن يترك أيامه تنزف من بين يديه، وهو غافل عن الموت وما بعده.. أشدّ النّاس ندماً في الآخرة هم المهدرون لأعمارهم؛ حتى ولو دخلوا الجنة، فإنّهم عندما يرون أنّ بين الدّرجة والدّرجة في الجنّة قراءة آية، وبينهما في العلوّ مسيرة خمسمائة عام، يتمنّون لو أنّهم قضوا لحظات حياتهم كلّها في طاعة الله والعمل للآخرة؛ فكيف لو تعرّض العبد للحساب الشّديد؟ كيف لو وجد نفسه في زمرة من يساقون إلى جهنّم زمرا وهو يرى أخاه وجاره وقريبه يساقون في زمرة أهل الجنّة؟ يقول أحد الصّالحين نحسبه كذلك: رأيت صديقاً لا يوقف تحريك شفتيه عن التّسبيح ونحن جلوس نتكلم، حتى إذا انفضّ المجلس، قمت وبي من الحسرة على نفسي ما الله به عليم.. تحسّر على نفسه حينما رأى أخاه يشغل وقته بذكر الله بينما هو غافل عن ذلك، ولم يتحسّر على أنّ أخاه قد فاقه غنى ومالا.. تحسّر لأنّه تذكّر أنّ الأنفاس الذّاكرة تورث الغرف العاطرة، وأنّ مهمل الحسنات مفرط في عالي الدّرجات.
الأعمار تحسب بالأنفاس، والجنّة غراسها ذكر لا يتعدّى طرفة عين.. عكاشة-رضي الله عنه- ومن معه من السّبعين ألفا يدخلون الجنّة وينعمون فيها قبل أن يدخلها غيرهم بخمسين ألف سنة.. فيا الله!ما أعظمه وأجزله وأعلاه من فضل، لو كانت قلوبنا تخفق للدّرجات العالية!.. سبق بها عكاشة، لكنّ الباب مفتوح لمن أراد اللّحاق بعكاشة ومن يكون معه.. فهل سنكون من المنافسين؟ أم على الأقلّ هل سنكون من المسابقين إلى درجات الجنّة وغرفها؟
علينا أن نتنبّه إلى أعمارنا ونوقف نزيفها.. أعمار أكثرنا تنزف وتذهب هدرا؛ في كلّ يوم نضيّع السّاعات الطّويلة في الغفلات والملهيات وربّما في المحرّمات.. نحرق ساعات طويلة كلّ يوم في تصفّح الفايسبوك وفي الجلوس أمام الشاشات لمتابعة مسلسلات لا تزيدنا إلا غفلة عن الله والدّار والآخرة ولا تزيدنا إلا تعلقا بالدّنيا وحرصا عليها.. يهدر كثير من شبابنا أيام حياتهم في متابعة مباريات الدوري الأوروبيّ، الذي ما إن ينتهي حتى يبدأ من جديد.. كرة تتقاذفها الأرجل وتدخل تارة في هذه الشّباك وتارة في الشّباك الأخرى.. فريق يفرح بالفوز ويتعرّى لاعبوه ويتبادلون نخب الخمر، ويفرح معهم المشجّعون ويطلقون الهتافات، وفريق آخر يتحسّر ويبكي لاعبوه ومشجّعوه، وربّما يطلقون ألسنتهم بسبّ مشجّعي الفريق الآخر.. وهكذا تنزف أعمارنا الغالية خلف كرة لا ناقة لنا فيها ولا جمل.
وُلدنا يوم ولدنا ونحن غير مستعدّين للحياة، ونموت يوم نموت ونحن غير مستعدّين للموت.. والجانب المخيف في أعمارنا هو الرّحيل المفاجئ.. ربّما يرحل الواحد منّا فجأة من دون مقدّمات.. ينزف عمر الواحد منّا ولا ينتبه إليه، حتى إذا جاءه الموت فجأة تنبّه إلى النّزيف الذي أصاب عمره ولم يشعر به، عند ذلك يتحسّر في وقت لا تنفع فيه الحسرات ولا تغني النّدامات.
جلس أحد المفرّطين أمثالنا مع نفسه يوما، وتأمّل حياته، وقال: ماذا لو متّ فجأة؛ من ذا يرتّب هذه الفوضى التي أتركها خلفي؟ نعم، هو سؤال ينبغي لكلّ واحد منّا أن يطرحه على نفسه: لو متّ فجأة؛ من هذا الذي يصلح الفوضى التي أتركها من بعدي؟ من يؤدّي عنّي الدّيون التي تهاونت في أدائها وسدادها؟ من يصلح لي قلب أمّي الذي كسرته أكثر من مرّة؟ من يطلب لي الصّفح والعفو ممّن ظلمتهم؟ من يصلح ما بيني وبين أولئك الذين عاديتهم وهجرتهم؟ من يصلح لي أبنائي الذين تهاونت في تربيتهم بحجّة أنّهم لا يزالون صغارا؟ من يقضي عنّي الصّلوات التي تركتها تهاونا وتكاسلا؟ من يطلب لي الصّفح من مصحفي الذي هجرته؟ من يؤدّي عنّي كلّ الأعمال التي كنت أؤجّلها وأنا أظنّ أنّه لا يزال أمامي عمر طويل؟
أيام قليلة تفصلنا عن رمضان؛ ينبغي أن يكون السّؤال فيها سؤالا واحدا: ماذا قبل رمضان؟ وكيف نستعدّ لرمضان ليكون بداية لحياة جديدة.. رمضان منحة يمنّ بها الله على من صدق وتهيّأ وتأهّب واستعدّ.. فلنتأهّب في هذه الأيام الباقية ولنستعدّ، لعلّ الله يعيد الحياة إلى قلوبنا ويرفع الأوزار عن كواهلنا فندخل رمضان بقلوب لينة وأرواح متخفّفة من الذّنوب متلهّفة إلى رضوان علام الغيوب.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
3
  • Moh

    رميت فأصبت

  • امير

    الوقت هو الحياة التي يقضيها الانسان من ساعة الولادة الى ساعة الوفاة
    وما اكثر (المجرمين) الذين يتفننون في قتل الوقت (الحياة)

  • حمزة تقرت

    مقال رائع جزاك الله خيرا