-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

ابن باديس يسبق عصره! 2/2

التهامي مجوري
  • 471
  • 0
ابن باديس يسبق عصره! 2/2

 يعدّ ابن باديس من تلك الكوكبة التي توارثت الفكر النهضوي، من داخل الجزائر عن شيخه حمدان لونيسي وسابقيه أمثال الشيخ عبد القادر لمجاوي وصالح بن مهنة، ومن تونس عن شيوخ له أمثال الشيخين الجليلين: محمد النخلي والطاهر بن عاشور، ومن خارج المغرب العربي، رواد الإصلاح محمد عبده والأفغاني ورشيد رضا…

ورغم أن الشيخين محمد عبده وجمال الدين الأفغاني، كانا يمثّلان مشروع النهضة في العالم الإسلامي، إلا أن حركة الإصلاح انقسمت في عهدهما إلى فريقين كبيرين، فريق قاده الشيخ محمد عبده، وهو الفريق الذي اعتمد النهضة العلمية التربوية وإصلاح التعليم، وفريق آخر قاده جمال الدين الأفغاني وهو الفريق الذي اعتمد الحل السياسي، مع بقاء كلا الفريقين على مبدإ ضرورة التغيير الجذري لواقع الأمة.

وابن باديس في هذا الواقع تبنى التوجُّهين معا، فلم يكن يرى ضرورة للتفريق بين المنهجين، إلا فيما اقتضته الضرورة، وإلا فإن واقع الأمة يحتاج إلى الإصلاح السياسي كما يحتاج إلى الإصلاح التربوي تماما… وكذلك فعل وعلى تلك الطريق سار طيلة عمره الدعوي 1913– 1940، وسواء في ذلك لمّا كان ينشط وحده في جامع سيدي قموش والجامع الأخضر، أو في الفترة التي كان فيها رئيسا لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين بعد ذلك.

أما في الدائرة الأضيق، وهي المسألة الجزائرية، فقد تعامل معها بنفس المنطق وبنفس المنهج، إذ لا فرق عنده بين همّه الإنساني كداعية وهمّه المتعلق بالأمة كعالم من علمائها وهمّه السياسي الآني والاستراتيجي كجزائري ومثقف في بلد مستعمَر، مثلما لا فرق عنده بين النضال السياسي والتربوي، إلا ما اقتضته أولويات المرحلة ومنهجيته في العمل الإصلاحي عموما وعمله التحرري الاستقلالي خصوصا، ولذلك ما من مجال يمر على الخاطر إلا ولابن باديس فيه أثر، فقد مارس التعليم والخطابة والتدريس والإعلام والنضال السياسي، وسجّل في كل ذلك أراء ومواقفَ ذات ثقل، كما أقام علاقات مع جميع من يرى أن لهم تأثيرا في الواقع، بما في ذلك بعض الطرق الصوفية التي كانت تبدو هي الخصم الأول للإصلاح ورجاله، فقد كشفت دراساتٌ ووثائق كثيرة نُشرت بعد وفاته عن علاقات له مع الكثير من شيوخ الزوايا وعلماء الطرق الصوفية، وقد سمعتُ رواية للدكتور غلام الله بوعبد الله، وزير الشؤون الدينية والأوقاف الجزائرية السابق، أن ابن باديس كان يزور والده في تيارت عندما كان والدُ غلام الله شيخَ زاوية بها، كما رأيت مراسلة نشرها سعد الله في إحدى دراساته، بينه وبين الشيخ الطاهر بن العبيدي من علماء وادي سوف محسوب على الطريقة التيجانية، كما كانت له علاقة بالسياسيين عموما سواء من الاندماحيين الممسوخين حضاريا أو الاستقلاليين الذين يمثلون العمق الثوري الجزائري.

ومع كل ذلك، فقد كانت للشيخ ابن باديس رؤيته الخاصة في تقييمه لواقع الأمة الإسلامية عموما وللواقع الجزائري خصوصا.

على مستوى الأمة كان يرى أن أزمة الأمة عميقة، وهي الأزمة التي عبَّر عنها مالك بن نبي رحمه الله بـ”الأزمة الحضارية”، أي أن الأمة بالمفهوم القرآني غير موجودة، والمسلم والمؤمن النشط الفعال الذي ارتبط مصيريا بالإسلام وجوده ضعيف، حتى أنه فرّق في إحدى مقالاته المنشورة في الشهاب بين “الإسلام الذاتي” و”الإسلام الوراثي”.

والنظام السياسي الشرعي الذي يمثل ثقل الأمة غير موجود أيضا، وإنما توجد أشكالٌ وأعراض لأمة ولمؤمن ولمسلم، وصورة باهتة لخلافة إسلامية لا تمثل الشرعية التي قرّرها الشرع، ولذلك لم يأسف كثيرا عن سقوط الخلافة كما أسلفنا؛ لأنها لم تكن تمثّل حقيقة صورة الإسلام التي قررها الله في كتابه وسنة نبيه، ولا الإسلام الذي لا تسعد البشرية إلا به، إذ اختلف عن بعض الدعاة المسلمين في تصويرهم لطبيعة الخلافة التي كانت عليها في عهده خلال السنوات التي كان ينشط فيها (1913/1924)… كما اختلف عمن يحاربها ويحمل السلاح في وجهها، كما فعلت الحركة الوهابية في شبه الجزيرة العربية، كما لم يعتبر أن مجرد سقوطها مبررٌ لنشأة الحركات الإصلاحية كما يقول بعض الإخوان المسلمين، الذين يعتبرون نشأة الجماعة –جماعة الإخوان- سنة 1926 ردَّ فعلٍ على سقوط الخلافة، وكأن حركات الإصلاح أنشِئت لتحل محل السلطة السياسية التي فُقدت بسقوط الخلافة.

وشروعه في النشاط الدعوي في سنة 1913، ومحاولة تأسيسه لجمعية الإخاء العلمي في سنة 1924، وتأسيس جمعية العلماء في سنة 1931، كان هو الواجب والضرورة التي لا بدَّ منها، قبل فكرة سقوط الخلافة وضرورة تعويضها.

على أن الفرق بعيدٌ بين الخلافة والحركة الإصلاحية، وبين التوجُّهين في تصوُّر الواقع كما هو، فمن ينطلق من الإصلاح السياسي لإعادة الخلافة لا يمكن أن يكون كالذي ينطلق من غياب الأمة التي كانت خير أمة أخرجت للناس… فالأول سيبقى منشغلا بإعادة هيكل سياسي أجوف متوهِّما أنه أعاد الأمة إلى مجدها، والثاني يرى أن واجب الوقت هو صياغة الأمة من جديد وإعادتها إلى الأصول التي بُنيت عليها، وابن باديس اختار هذا التوجه الذي عمل على معالجة أزمة غياب الأمة، حتى أنه وضع شعار مجلته الشهاب مقولة الإمام مالك رحمه الله “لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أوّلها”.

ولصعوبة وضع كتاب في مقال، رأيت أن هذا التقديم كاف لوضع ابن باديس والفكر الباديسي في إطاره المفترض الذي ناضل به في حياته، مع وضع عناوين كبرى لحركة ابن باديس كما مارسها في الواقع، بوضع جميع المقولات والمواقف والآراء في إطارها الذي كانت فيه لتفهم في ضوئه، التي يمكن إيجازها فيما يلي:

 أولا: لا يمكن محاكمة حركة ونصوص ومواقف وأراء يفصلنا عنها قرنٌ من الزمان، بمعطيات اليوم. ولمن أراد أن يفهم الموقف والرأي والمقولة عليه أن ينتقل إليها، إلى زمانها ومكانها وحالها، ليفهمها على وجهها الصحيح؛ لأن الظروف والملابسات المحيطة بالواقع الذي ندلي فيه بآرائنا مختلفة من واقع آخر في جانب أو جوانب منه، ومن ظرف لآخر ومن حدث لآخر، ولا يمكن الحكم على الرأي والموقف إلا بعد الاحاطة بما حوله من ملابسات.

ثانيا: أن التربية والتعليم أول مفصَل في النهضة والتنمية، وكل عمل تحرري يريد النهضة لا يمكنه تحقيق مراده إلا بالتربية والتعليم. ولذلك لم يهتم ابن باديس بشيء اهتمامه بالتربية والتعليم؛ لأنه آمن بجذر النهضة الأول وهو التربية والتعليم، وبدأ في تأسيس المدارس قبل الجمعية؛ بل عمل على الفصل بين الجمعية والمدارس التي تُنشئها عبر الوطن، وكل ما يُعرف بأنه مدارس لجمعية العلماء، ليس له ارتباط عضوي بالجمعية، إلا من خلال مدرِّسيها الذين هم من رجال الجمعية، أما المؤسسات التربوية فكلها جمعياتٌ محلية ومؤسسات خاصة لأهل المدن والقرى، ولكن بعبقرية الجمعية وبن باديس.

ثالثا: ابن باديس يفرِّق في نشاطه بين المبادئ والوسائل والغايات، ومن ثم لا يمكن فهم الموقف الباديسي إلا بتصنيفه؛ لأن النشاط الإنساني ليس علوما دقيقة وإنما هو ثوابت ومتغيرات، ولذلك وجدنا له أراء ومواقف مبدئية نفيسة في الفكر الإنساني مثل المسألة الثقافية، الحرية، الوطنية، الاستقلال، الثورة… ومواقف أخرى سياسية تكتيكية، كتذكير فرنسا بمبادئها [الحرية، الأخوّة، المساواة]، وواجب الاستعمار تجاه البلاد المستعمَرة، وقد سبق قراراتِ الأمم المتحدة في ذلك، ومعالجة القضايا الآنية التي قد تتغير المواقف فيها بين الحالة والحالة.

رابعا: الخطاب الإسلامي ببعده الإنساني الذي هو الأصل، وقد جاوز الخطاب الإسلامي التقليدي والخطاب الحداثي القاصر على الشكليات والأمور المادية.

خامسا: رغم أن الأصل في الموقف من المناضلين في الحركة الوطنية بشقيها السياسي الثوري والإصلاحي هو الاحترام والتقدير والاعتذار للمخطئ، إلا أننا بسبب انسلاخنا عن هذه المسلَّمات، ندعو الناسَ إلى التجرُّد في تحليل مواقف وآراء ابن باديس تجاه واقعه؛ لأنَّ الانطلاق من الخلفيات الفكرية والمواقف المسبقة تضلِّل أصحابها، فمن انطلق من أن ابن باديس “خائن” لا يمكن أن يُفهم كلامه إلا وفق هذا الموقف ولو كان كلامه قرآنا، ومن انطلق من أن ابن باديس نزيه لا يمكن أن ينظر إلى مواقفه إلا وفق رأيه المسبق فيه.

ما من مجال يمر على الخاطر إلا ولابن باديس فيه أثر، فقد مارس التعليم والخطابة والتدريس والإعلام والنضال السياسي، وسجّل في كل ذلك أراء ومواقفَ ذات ثقل، كما أقام علاقات مع جميع من يرى أن لهم تأثيرا في الواقع، بما في ذلك بعض الطرق الصوفية التي كانت تبدو هي الخصم الأول للإصلاح ورجاله.

والرأي المعتبر هو محاكمة الأفكار والآراء والمواقف وتقييمها وفق حسن الظن وبمعطيات المرحلة، وهذا ما عُرفت به النخب الجزائرية وراعته في مواقفها وفي تعاملها الإيجابي مع ابن باديس، سياسية كانت هذه النخب أو دينية أو ثقافية، فعباس فرحات لم يكن يؤمن بوجود الوطن الجزائري في مقاله الشهير “أنا فرنسا”، ولكن بعد ردِّ ابن باديس عليه الذي قال له فيه “الجزائر ليست فرنسا ولا تريد أن تكون فرنسا ولن تكون فرنسا ولو أرادت” زاره بهذه المناسبة وهذَّب خطابه ومواقفه بما يقتضيه الحال… وكذاك الأمين العام للحزب الشيوعي عمار أوزقان رحمه الله الذي انبهر بابن باديس بعد “المؤتمر الإسلامي” سنة 1936…

هذا مشروع كتاب أتمنى أن يمد الله في العمر لإتمامه.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!