الرأي

البناء المؤجل للجمهورية الجديدة

حبيب راشدين
  • 1551
  • 6
ح.م

كما جاءت حكومة الرئيس الأولى بصيغة انتقالية، تعالج الملفات العاجلة العالقة منذ استقالة الرئيس بوتفليقة، معاقة ببرلمان من مخلفات العهد السابق، وبحراك يعاملها كحكومة أمر واقع، فإن فتح الرئيس ورشةَ تعديل الدستور تشي بالحاجة إلى تجديد الفضاء السياسي، وتفكيك بقايا مؤسسات العهد السابق بالأدوات الدستورية، قبل الشروع في فتح باقي ملفات الإصلاح، رفقة برلمان جديد، وبإعادة توزيع الصلاحيات بين السلطات الثلاث، ومنها منح البرلمان مزيدا من الصلاحيات التي كان قد عطلها الرئيس المستقيل بممارسته صلاحيات لا تكون للرئيس إلا في نظام رئاسي صرف.

غير أن المحاور السبعة التي اقترحها الرئيس على هيأة الخبراء المعينة لصياغة التعديل الدستوري، قد خفضت سقف التوقعات من التعديل الدستوري القادم، باقتراح جملة من التعديلات المحدودة في باب الحريات، ومراجعة محسوبة لصلاحيات السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية، وتعزيز الفصل بين السلطات، مع التفاتة إلى حاجة المشهد السياسي لضوابط دستورية تؤمنه من توغل وتغول المال الفاسد.

ومع أن الرئيس ترك هامشا واسعا للهيأة التقنية لاقتراح تعديلات خارج هذه المحاور، فإنه لا يعول على هيأة تقنية معينة ليس لها صفة تأسيسية، أن تأتي بإضافات ذات شأن لما ورد في خارطة الطريق المقترحة، حتى مع فرضية انفتاحها في وقت ضيق على ما قد يصدر عن مجتمع سياسي مفكك فاقد البوصلة، قد همشه الحراك، وفاته ركوب قطار السلطة بعد أن أساء تقدير الموقف.

فالتعديلات المقترحة لا تعد بتغيير جوهري لنظام الحكم، مع الإبقاء على نظام شبه رئاسي كانت قد شوهته ممارسة الرئيس المستقيل بالسطو على صلاحيات البرلمان، وتقزيم دوره كشريك في السلطة، يتمتع في الحد الأدنى بسلطة الرقابة على عمل الجهاز التنفيذي الذي استفرد به الرئيس، مع حكومة لا تدين للبرلمان لا من جهة التكليف والتأليف، ولا من جهة الرقابة وحجب الثقة، ليتحول البرلمان بغرفتيه إلى محض واجهة تشريعية بلا سلطة، وسلطة قضائية مستباحة لتدخلات وضغوط ذوي الجاه والمال.

سقف التوقعات في هذين المحورين يظل متواضعا، أعلى ما يمكن إن يتوقع في الإصلاح الجديد، استعادة الحكومة بعض الصلاحيات التنفيذية، مع الإبقاء على الأهم منها بيد الرئيس، والعودة إلى نظام حكم برئيس حكومة يعين من الأغلبية البرلمانية، ومنح البرلمان هامشا أوسع في ممارسة الرقابة على حكومة، والبقاء على جهاز تنفيذي برأسين، قد يسمح عند الضرورة بتعايش الرئيس مع حكومة من أغلبية برلمانية قد تنتجها الاستحقاقات التشريعية المؤمنة من العبث والتزوير، وفي أحسن الأحوال سوف يذهب بنا التعديل إلى تثبيت نظام حكم شبه رئاسي مستنسخ من نظام الجمهورية الفرنسية الخامسة، لا يكون فيه الرئيس مسؤولا أمام البرلمان، ويحتفظ إلى جانب سلطاته التنفيذية الواسعة بسلطة التشريع بمراسيم، والتصرف المطلق في التعيينات في المناصب القيادية في الإدارات الكبرى وأسلاك الدولة خارج استشارة أو رقابة البرلمان.

وفي محور إصلاح منظومة القضاء واستقلاليتها، لا نلمس في ما هو مقترح وجود إرادة حقيقية لتحرير سلطة القضاء، ما لم يمنح التعديل للقضاء صلاحيات واسعة لسلطة منتخبة، تنتزع من وزارة العدل سلطة التعيين، والترقية، والرقابة، والعقاب والثواب، مع منح وكلاء الجمهورية والادعاء العام سلطة تحريك الدعاوى، وإدارة التحقيق المستقل، وإخضاع جميع سلطات الضبطية القضائية لرقابة وكلاء الجمهورية تحت أعين القاضي المستقل، مع تجريم صريح لأي تدخل أو ضغط من السلطات التنفيذية ومن ذوي الجاه والمال في مسارات التقاضي، من التحقيق إلى الفصل في الخصومات.

ومع تثمين ما هو مقترح، بالنظر إلى ضيق الهامش الزمني الممنوح للهيأة التقنية، واستحالة إدارة حوار مع مكونات المشهد السياسي والجمعوي ومع ممثلي الحراك، وحاجة الرئيس إلى تعديل دستوري سريع يسمح بتجديد آمن لمؤسسات الحكم، فإن مشروع بناء الجمهورية الجديدة سوف يرحل إلى ما بعد استعادة الدولة لتوازنها، وربما انتظار ميلاد مشهد سياسي جديد، بقوى سياسية أكثر تمثيلا لجيل ما بعد جيل “طاب جنانو”.

مقالات ذات صلة