الرأي

التعاطي مع التنوّع اللغويّ.. بين العقلانية والمجاملة

سلطان بركاني
  • 1286
  • 25
ح.م

يشير بعض المهتمّين بالشّأن اللغوي أنّ عدد اللّهجات في ألمانيا لا يقلّ عن 50 لهجة، من بينها 16 لهجة رئيسة كبيرة، تقوم كلّ لهجة منها على نظام لغويّ مستقلّ بقواعد خاصّة وطريقة متميّزة في الكلام.. لكنّ الألمانية القياسية ظلّت لغة البلد الرّسمية التي لا تزاحمها أيّ لغة أخرى، وكلّ من يطلب تعلّم اللّغة الألمانية في ألمانيا يجد كلّ المعاهد تعلّم لغة واحدة هي الألمانية الرسمية، على الرّغم من أنّ بعض المناطق تختلف فيها اللّهجة عن الألمانية الرسمية اختلافا ملحوظا، ويُجهد متعلّم الألمانية نفسه لفهمها.

 يَذكر بعض الباحثين أنّ الطبقة المثقّفة في ألمانيا كانت إلى أواخر العصور الوسطى تتحدث اللاتينية وتكتب بها، وكان عامّة الألمان يتحدّثون لهجاتهم، لكنّ هذه الحقيقة التاريخية، لم تكن عائقا أمام الألمان للتوحّد بعد ذلك على لغة رسمية واحدة، تكون لغةً للإدارة والسياسة والتعليم.. وما قيل عن الألمان يقال أيضا عن الفرنسيين الذين يتحدّثون ما لا يقلّ عن 14 لهجة محلية، لكنّ الحرص على الوحدة الوطنية لم يمنح تلك اللهجات أيّ حظّ في التّعليم ولا في الإعلام، ولا في الإدارة ولا في الدّوائر الرّسمية، ولم نعلم أنّ بعض الفرنسيين تذرّعوا بالتنوّع للمطالبة بترسيم بعض اللّهجات، بل إنّ فرنسا الرسمية تتذرّع بقانون داخليّ ورثته من زمن نابليون يحظر تعليم واستعمال اللّغات المحلية، لتصرّ على تنكرّها لقانون أوروبيّ جامع يفرض على الدول الأعضاء تشجيع اللغات المحلية.. بقي لنا أن نعلم اللغة الفرنسية الرسمية ليست هي لغة الفرنسيين الأصلية، ويكفي في هذا الصّدد الإشارة إلى ما أكّدته الباحثة الفرنسية أونريات فالتر، في كتابها “الفرنسية بكل أبعادها”، من أنّ فرنسا في الألفية الأولى قبل الميلاد كانت تسمى “الغالية” وكان سكّانها يتحدّثون لغة سلتية تسمّى”اللغة الغالية”، لكنّهم اعتنقوا بعد ذلك لهجة من لهجات المستعمر الرّوماني، لتختلط هذه اللّهجة بعد ذلك بلهجة القبائل الجرمانية الغازية، وهكذا مع مرور الوقت أصبح الخليط هو اللغة الفرنسية الرسمية، بعد أن انقرضت اللغة الأصلية للفرنسيين.

ليست نقيصة في حقّ الفرنسيين أن يستبدلوا لغتهم الأصلية، لصالح لغة تتّحد عليها كلمتهم، وليس مستهجنا أن تتنكّر فرنسا للّهجات المحلية، إنّما المستهجن هو أن تمارس فرنسا هذه الوصاية على دول أخرى، وتعزف نغمة التعدّد اللغوي لدول تحاول فرنسا فرض وصايتها عليها، وتحرّض بعض مكوّنات تلك الدول على بعض! وتنكر على تلك الدّول ما تمارسه هي على أرضها.

ليس عيبا ولا مشكلا أن تعترف أيّ دولة من الدّول بلهجاتها أو لغاتها المحلية وتسعى لتطويرها وترقيتها، وتعتبرها جزءًا من موروثها الثقافيّ الذي تسعى للمحافظة عليه، لكنّ المشكل حين يراد لهذه اللهجات أو اللغات المحلية أن تكون ضرات أو ضرارا للغة الرسمية، ويطالب البعض بجعلها لغات رسمية أخرى قبل بتّ الأمر في كتابتها وإظهار مراجعها اللغوية والثقافية، والمشكل الأكبر حين يصرّ بعض المتعصّبين على أنّ اللغة الرسمية لغة طارئة أو غازية، ويزداد الإشكال تعقّدا حينما ينظر بعض المستلبين من هؤلاء المتعصّبين إلى لغة المستعمر على أنّها غنيمة حرب!

الجزائر الحبيبة تمرّ بمرحلة حرجة ومخاض عسير، وليس من الحكمة ولا من العقل أن تقدّم المصالح الفئوية أو الجهوية أو العرقية على المصلحة الوطنية، وتطرح عناصر الهوية على أنّها عناصر صراع وتضادّ.. اعتبار اللّغة العربية لغة رسمية، لا يعني بالضّرورة إلغاء اللّغات الأخرى التي يزخر بها الموروث الثّقافيّ، إنّما يعني الحرص على الوحدة الوطنية، وتسقيف المطالب الفئوية والجهوية.

الدّول المتقدّمة تفخر بموروثها الثقافيّ واللغويّ، لكن حينما يتعلّق الأمر باللغة المشتركة التي تكون أساسا للتعليم والإعلام والإدارة والخطاب الرّسميّ، فإنّ الكلّ يطالب بالتنازل والذّوبان في الخيار الرّسميّ المشترك، بل إنّ بعض المثقّفين في بعض الدول الأوروبية يذهبون بعيدا إلى حدّ المطالبة بمنع كلّ ميل رسميّ عن اللّغة الرّسميّة ومعاقبة من تسوّل له نفسه ذلك، فهذا مثلا الروائيّ الفرنسيّ “جون دوتور”(ت 2011م) الذي كان رئيسالجمعية الدفاع عن اللغة الفرنسية التي ينضوي تحتها أكثر من 3000 عضو، يقول: “لو أن كلّ معلّم يستعمل الفرنسية الممزوجة بالإنجليزية والأمريكية والسابير، تسلط عليه غرامة 100 ألف فرنك فرنسي في العام، فإن هؤلاء سوف يختفون في مدة أسبوع..يجب على السلطات الفرنسية أن تقوم بعملية تطهير كبرى وتسلط غرامة 20 فرنك فرنسي على كل من يوظف عبارات غير فرنسية الأصل… ومن ثمة مثل فإنّ هذه الفواحش سوف لن تعمر طويلا ولا يصبح الناس الأسوياء يسمعونها ويستعملونها”.

نحن لا نريد أن يصل الحزم إلى هذا الحدّ، لكنّ هناك حدًّا أدنى من الحرص على المصلحة والوحدة الوطنيتين وعلى مكانة اللغة الرسمية ينبغي أن يحفظ ويصان، حتى لا تفتح المجاملات الأبواب على مصاريعها لتنامي المطالب الفئويّة والعرقية التي ربّما تُعرف بدايتها ولا تعرف نهايتها.

مقالات ذات صلة