الرأي
صناعة الغد

الثقافة والاقتصاد

بشير مصيطفى
  • 832
  • 23
ح.م

تنطلق الأحد القادم بولاية الطارف أعمال المؤتمر العلمي الأول لجمعية صناعة الغد في موضوع   الثقافة والتنمية المستديمة في الجزائر. الموضوع مهم لسببين اثنين: أولهما أنه يطرح اشكالية غير مطروقة من قبل في ساحة دول السوق التي مازال موضوع التنمية بها مجالا للنقاش والتجارب، والسبب  الثاني يتعلق بحاجة بلادنا الجزائر لرؤية متجددة في مجال النمو تتخطى عتبة الموارد المادية والمالية إلى سقف الموارد اللامادية وعلى رأسها القيم الثقافية.

 نماذج التنمية الاقتصادية

جرَّب العالم منذ نشوء النظرية الاقتصادية التقليدية نماذج نمو متعددة أفضت إلى نتائج متباينة على سلم التنمية قبل أن نصل اليوم إلى التنمية المبنية على البيئة واستدامة الموارد؛ أي نموذج التنمية المستديمة، إلا أن هذا النموذج  لا يزال يقتات من الأدبيات التقليدية للنمو وهي نفسها الأدبيات التي تشكلت منها المدرستان الليبرالية ثم الماركسي، ويتعلق الأمر بنظرية المراحل لروستوف التي تعني أن الدول المتأخرة في معدلات النمو مجبَرة على أتباع نفس مراحل التصنيع الرأسمالي للحصول على قدر مناسب من النمو، ونظرية التخطيط الاشتراكي التي تعني أن الدولة مجبرة على امتلاك وسائل الإنتاج لإطلاق قطاع عام يحقق عدالة توزيع المداخيل، ونظرية رودان التي تعني أن الدول مجبرة على تكثيف الاستثمار للحصول على قدر مناسب من النمو المبني على التراكم الرأسمالي في قطاعات  محددة أو ما يعرف بـ(النمو غير المتوازن) أو في جميع قطاعات الاقتصاد أي ما يعرف بـ(النمو المتوازن)، وهناك نظريات أخرى تعنى بنفس الموضوع  مثل نظرية الدفعة الخارجية التي تعني أن الدولة المتأخرة في النمو تحتاج لرأسمال خارجي إما في شكل ديون أو تبعية ثم نظرية بيرو التي تعني أن التطور الاقتصادي يتحقق عبر مراكز محددة للنمو حتى سميت بنظرية (مراكز النمو)… نظريات متعددة خضعت للتجربة تشترك في أمر واحد هو خلوّها من أي اعتبار للثقافة أو القيم.

تجديد النظم الاقتصادية

ولكن مع تجربة النظريات المذكورة، بدا جليا النقص النظري في تصميم نماذج النمو، ما فتح الباب أمام جدل علمي حول دور الثقافة والقيم الوطنية في تسريع النمو أو تباطئه خاصة بعد صدور نتائج الأبحاث التي تناولت دور الثقافة في تقدم الدول ومنها الدراسة العلمية المرموقة (الثقافة مهمة) للباحث جيفري ساكس العام 2000 والتي أثبتت الدور الوظيفي للثقافات في تشكيل الرؤى الاقتصادية الأكثر نجاعة، ومن ذلك أيضا كتاب (الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية) لعالم الاجتماع ماكس فيبر الذي أثبت دور المذاهب الدينية في تقسيم الدول بين سرعة النمو وتراجعه.

الرؤية الجديدة للتنمية على أساس العامل الثقافي قد يساهم مستقبلا في تجديد النظم الاقتصادية على نحو مغاير لما عهدته البشرية خلال الأربعة قرون الأخيرة، وربما سينتقل العالم خلال القرن القادم من التنمية المبنية على الموارد المادية والمالية إلى التنمية المبنية على الموارد غير المادية، تماما مثل ما حدث في تجارب النمو الأخيرة في دول آسيوية ومنها كل من كوريا الجنوبية والصين واليابان وسنغافورة وماليزيا وأندونيسيا وحاليا كل من الفيتنام وتايلاندا.

رؤية مالك بن نبي

وموازاة مع أعمال كل من ماكس فيبر وجيفري ساكس، تختزن الثقافة العربية الاسلامية نماذج حية عن دور الثقافة في تشكيل النظم الاقتصادية ومنها حضارة الأندلس وازدهار بغداد وتقدم الحواضر الإسلامية غرب إفريقيا مما أثرى فكرة مالك بن نبي حول شروط النهضة؛ فالنهضة التي تعني التنمية الشاملة في المصطلح المعاصر تقودها معادلاتٌ ايجابية تتكون من (الفكرة والشخص والشيء) أو من (الإنسان والتراب والوقت) إذ تنمو الفكرة في وسط ثقافي ملائم لقيم المجتمع كما يتطور الانسان بشكل ايجابي في محتوى ثقافي محدد. وبالتالي هناك  ثقافات ايجابية تسرع في النمو في حين تميل شعوب للكسل في إطار ثقافات متكاسلة أو مثبِّطة للنمو مما يساهم في صناعة التخلف.

موضوع الثقافة وعلاقتها بنموِّ الأمم واستدامة تنميتها موضوعٌ جد مهم بالنسبة لدول لازالت تابعة للأسواق الخارجية، والأكيد أن مؤتمر صناعة غد ولاية الطارف سيكشف عن أبحاث جديدة في هذا الاتجاه لا تقل أهمية عن الأبحاث السابقة.

مقالات ذات صلة