-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع
نيشان

الثورة .. والثورة المضادة

محمد عباس
  • 1525
  • 0
الثورة .. والثورة المضادة

كانت الثورة الجزائرية التي نحتفل بذكراها الـ 56 عظيمة في معركة التحرر الوطني، يشهد بذلك العدو قبل الصديق. وكانت مؤشرات العقد الأول من الاستقلال توحي بأنها ستكون في معركة بناء هذا الاستقلال، على نفس القدر من العظمة أو أكثر..

للتذكير أن تحديات الاستقلال تتلخص أساسا في اختيارين مصيريين:

– الأول بناء اقتصاد وطني منتج للثروة، لإعطاء الاستقلال بعده المادي الذي لا غنى عنه، اقتصاد منتج يوفر الحد الأدنى من الحياة الكريمة لأكبر عدد ممكن من الجزائريين. فالاقتصاد المنتج هو الأساس المادي لقوة الدولة، ومثل هذا الاقتصاد لا يمكن تصوره بدون تصنيع. وهذا ما أدركه الرئيس الراحل هواري بومدين وسعى إليه جادا مجتهدا، وكان المفروض أن يسير الرؤساء الذين خلفوه على نهجه، ولو بتصحيح نقائصه -إن كانت هناك نقائص-.

– الثاني بناء ثقافة وطنية تواصل انطلاقة الثورة في هذا المجال الحيوي، بتحرير الذهنيات من مخلفات الثقافة الاستعمارية المشحونة بكل ألوان العنصرية والصليبية؛ ثقافة وطنية متفتحة على العصر، في ظل الوفاء للحقائق التاريخية والثقافية والدينية.

فالرهان على هذا الصعيد يكمن في تجسيد الاستقلال، في حرية الفكر التي لا يمكن تصور اكتمال سيادة الأمة بدونها.

والملاحظ أن السير على هدى هذين الاختيارين اضطرب، ثم انحرف منذ مطلع الثمانينيات. ولنا في مؤشر المحروقات دليل قوي وواضح على ما نذهب إليه: لقد تحول الحكام من التقشف، بنية استثمار أكبر نسبة ممكنة من ريع المحروقات، إلى الإسراف في استهلاكه على حساب الاستثمار المنتج عامة، والاستثمار في التصنيع على وجه التحديد.

وما لبث أن أعقب هذا الانحراف “استثمار” من نوع آخر: “استثمار” في التدمير الذاتي المادي والمعنوي!

من معاول التدمير الذاتي المادي “الأحداث” المفبركة -على غرار أحداث أكتوبر 88!- والإرهاب، فضلا عن استفحال ظاهرة الفساد والعبث بالمال العام.. وقد أحدثت هذه الظواهر وتحدث مجتمعة نزيفا ماليا، من الصعب تصور إقلاع اقتصادي جدي وحقيقي في ظل تواصله.

ومن قنابل التدمير الذاتي المعنوي العمل في وضح النهار على نسف الوحدة الوطنية، محصلة قرن وثلث القرن من المقاومة الشعبية والتضحيات الجسام، ومكسب رئيسي لثورة التحرير المباركة.. من هذه القنابل:

1- النزعة “البربرتية” التي نددت بها الحركة الوطنية الثورية منذ مطلع الثلاثينيات من القرن الماضي، غداة مؤامرة “الظهير البربري” الشهير في المغرب، باعتبارها من بنات الإيديولوجية الاستعمارية و”ثقافة” الكاردينال لافيجري، وسلك الآباء البيض الذي أسسه لتنصير إفريقيا انطلاقا من بوابة الجزائر..

للتذكير أن مؤتمر الصومام اعتبر هذه النزعة خيانة، وأمر بالتصدي لها أسوة بالحركة المصالية. والمؤسف أن تصبح الخيانة “قضية” في جزائر الاستقلال!

2- “الأقلية الفرنكوفونية”: كانت الحركة الوطنية قبيل فاتح نوفمبر 54 محرجة بوجود الأقلية الفرنسية الحاكمة في ظل الاحتلال، متخوفة من دورها في حالة اندلاع الكفاح المسلح، وفي حالة بقائها بعد الاستقلال. فقد كانت هذه الأقلية الكل في الكل، الأمر الذي يصعب من مهمة سلطة الاستقلال الفتية، في تحرير الإدارة والاقتصاد والإعلام والثقافة منها، وتقليص امتيازاتها المفرطة شيئا فشيئا.

ولحسن الحظ أن عنصرية هذه الأقلية -التي كانت ترفض أن يحكمها “العرب”- وجنون منظمتها الإرهابية بدءا من 1960، قد عجل بتفككها ورحيلها..

لكن الملاحظ أن هناك من يسعى لظهور “أقلية فرانكوفونية”، تعوض الأقلية الفرنسية في جزائر الاستقلال، بنفس الإيديولوجية والثقافة والامتيازات! وتحقق نبوءة الجنرال دوغول في فرنسة الشعب الجزائري!

أن الاستعمار الفرنسي الجديد وهو يشجع مثل هذه النزعات المتطرفة يريد استدراج شعبنا واستنزافه في معارك هامشية، لتلهيته وصرفه عن مشروع بناء قوته المادية والمعنوية، على أساس الاقتصاد المنتج للثروات، ولا ثقافة الوطنية المغذية للحريات بدءا بحرية الأفكار والذهنيات. تماما مثلما فعل إبان ثورة التحرير، بتشجيع الحركات المناوئة من “كوبيس” إلى بلونيس، ومن الباشاغا بوعلام إلى الشريف بن سعيدي.. وبناء على متاعب الجزائر منذ نحو ثلاثة عقود، يمكن أن نستخلص بأن الثورة الجزائرية العظيمة -بعد أن أكلت العديد من أبنائها- هي اليوم بصدد إنجاب ثورة مضادة أعظم منها! إن لم تكن قد أنجبتها فعلا!

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!