-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

الجسور الفاعلة

التهامي مجوري
  • 488
  • 0
الجسور الفاعلة

بدعوةٍ من المجموعة البرلمانية لحركة مجتمع السلم، كانت للدكتور نور الدين بكّيس، السوسيولوجي النشط، محاضرة بتاريخ 09 ديسمبر 2022، حول المعارضة وما ينبغي أن تكون عليه، ورغم أهمية المحاضرة التي أدعو المهتمين بالشأن العام إلى البحث عنها ومتابعتها، كما أدعو حركة “حمس” أن تستنسخها لتوزيعها على مناضليها، فإن كتابتي عن الموضوع ليست لذلك، وإنما للتعريج على هذا الجانب المهم وهو دعوة النخبة والصفوة من أهل الاختصاص في الشأن السياسي الاجتماعي وإشراكهم في الهمّ الوطني وتحميلهم مسؤولية الاهتمام بالشأن العام؛ لأنهم جزءٌ منه وعليهم من المسؤولية تجاه المجتمع ما ليس على غيرهم، ليقوموا بدورهم ويساهموا في مساعدة المجتمع ومؤسساته الرسمية، وتنظيماته الشعبية على فهم الواقع وتجاوز اختلالاته ومتاعبها.

النضال في أصوله هو تأطير الشعب وتأهيله بتدريبه على كيفية ممارسة السياسة، متى يعارض؟ ومتى يوالي؟ ومتى يطالب؟ ومتى يهتم بنفسه فيقوم بواجباته؟ والكيفية التي يعارض بها ويوالي ويطالب ويقوم بواجباته، وقبل ذلك كله، لا بدّ من وجود مشروع سياسي اجتماعي واضح يتقدم به الحزب أو السلطة وإقناع الشارع به وتحميله مسؤولية اختياره لهذا البرنامج أو ذاك.

وتكمن أهمية هذه المبادرة في جملة من الحقائق التي كانت غائبة طيلة الفترة التي عشناها في ظل التعددية السياسية أو قُل في ظل فترة الانفتاح 1989/2022.

الحقيقة الأولى: دعوة إطار متخصص في علم الاجتماع السياسي، من خارج الأطر الحزبية المحسوبة على المعارضة والموالاة، ومن خارج السلطة نفسها، إلى فعل إيجابي وفعال، لأنه يكون بمثابة الوسيط الذي يتمتع بالمصداقية.

لا شك أن لكل من هاتين الجهتين نخبَها المتخصصة، ولكنها لا تمتلك من الصدقية المقبولة التي يمتلكها المتخصص من خارج الأطر؛ لأن النخبة المؤطرة في المؤسسات الرسمية والشعبية لها حساباتها الجزئية أو قُل المذهبية.

الحقيقة الثانية: اللجوء إلى النخبة وصفوة المجتمع من حيث هي، وتمكينها من المساهمة في التنمية السياسية والاجتماعية، بعدما كانت تعاني من التهميش والاستقطاب المخلّ، انتقال لتلمس الحقائق عند أهلها، إذ أنّ الخبراء في جميع الميادين هم الذين يهتدون إلى الحلول العلمية والأكثر صدقية؛ بل إن النخبة والصفوة في الأساس هي التي تقود المجتمع، ولكن ما طُبعت عليه الطبقة السياسية هو أن تستثمر في نخب المجتمع كما يستثمر أرباب المال في الكادحين، أو بإذلالهم بالمناصب والمواقع ورؤوس القوائم الانتخابية، ودعوة مثل هذه تعيد الأمور إلى نصابها، ليعود للنخبة والصفوة موقعها، فلا تُستدرج وتُستعمل فيما لم تجعل له.

صحيحٌ أن النخبة أهانت نفسها في بعض المراحل عندما تخلت عن دورها وخنعت وخضعت لمغريات السلطة والمواقع السلطوية والمالية، فاستبدلت الذي هو أدنى بالذي هو خير، عندما انسحبت من الساحة تحت ضربات الإذلال حينا، وخوفا من بطش ذوي القوة والنفوذ حينا آخر، وأذلت نفسها خضوعا: خوفا من هذه الجهة أو تلك تحت ضغط الحاجة، وطمعا في موقع أفضل، ولكن الخبرة التاريخية تكشف لنا أن النخب بطبيعتها التي خُلقت عليها هي المؤهَّلة لقيادة المجتمعات؛ لأنها هي المهندس لتركيب أجزاء الحياة، ولكن عندما تصطدم بالواقع الذي لا يقبلها ولا يقبل علمها ورأيها، فإنها تنكمش ولا تقوى على المقاومة إلا نادرا، ولا يمكن تعويضُها بغيرها من الأطراف المؤدلجة والمتحزِّبة والمصطفَّة.

وفتحُ المجال لمثل هذه المبادرة وتعميمها، يشجع النخبة والصفوة على اقتحام الميدان من جديد؛ لأن غياب النخبة لا يسده شيء آخر، حزبًا كان أو سلطة أو غيرها.

الحقيقة الثالثة: الاستماع إلى الآخر الحقيقي، وهو الآخر الذي يبني آراءه ومواقفه وتحليلاته على المعطيات العلمية والواقعية، وليس الآخر الطرف المعارض الذي تُقرأ مواقفه وآراؤه بحذر وحيطة وتردّد تضيع معه الإرادات الخيِّرة… فـ”حمس” دعت الدكتور بكيس، لا ليزكي مواقفها وآراءها بوصفها معارضة، وإنما دُعي ليقول رأيه فيما طُلب منه الكلام فيه، ومن ثم فالمطلوب منه أن يتكلم عن المعارضة وما ينبغي أن تكون عليه، وكذلك السلطة وما ينبغي عليها تجاه معارضيها، وكيف عليها أن تتفاعل مع الواقع الذي تريده والذي لا تريده، كذلك فعل الأستاذ ووُفِّق في الكثير مما عرض من الأفكار.

ثم إن المعارضة مطالَبة بأن تشخِّص الأمراض التي يعاني منها الواقع، هل هي في الشعب؟ أم هي في النظام؟ أم هي في طبيعة النضال نفسه، أي في الممارسة السياسية، سلطة ومعارضة، وهم يحسبون أنهم يُحسنون صنعا؟

صحيحٌ أن المرء يمكن أن ينطلق من حقيقة هي محل إجماع بين الناس، وهي أن حبل الثقة مقطوع بين الجميع؛ لا أحد يثق في أحد، هذه حقيقة بكل أسف بادية للجميع، ولكن هذه الحقيقة تُخفي وراءها الكثير من الحقائق التي لا تظهر إلا بعملية نقدية عميقة تكشف للأفراد وللمؤسسات مستوياتهم في التعامل مع الشأن العام، لاسيما في النشاط السياسي الذي يعدُّ من أكثر المجالات جاذبية وزرعا لبذور الطمع في حياة الناس، وإفسادا طبائعهم.

الحقيقة الرابعة: مثل هذه المبادرة أراها تساهم في إعادة الثقة بين الفئات المتنافرة، وذلك بدخول النخب العلمية على الخط، لأنها ستقوم بدور الوسيط بين جميع الأطراف، والمستشار والمرجع الذي يقدِّم خبرة وعلما وإضافة، فيكون بديلا لكتلة من سوء الظن والخوف والتردد التي تكبّل الجميع وتحرمهم من المبادرة… إذ يتمكن الجميع من الالتقاء والنقاش والحوار على مائدة العلم والخبرة التاريخية كما يعرضها أهل الاختصاص. ولكم تمنيت أن يقوم البرلمان بمثل هذه المبادرة، وليس كتلة لحزب سياسي.

إن عملية الإصلاح والنهوض بالمجتمع على المستوى السياسي كما جاء في محاضرة الدكتور بكيس لها شقان، شق متعلق بمعركة الشارع وشق آخر خاص بمعركة المؤسسات.

أما معركة الشارع فهي في الشعب وفئاته المتنوعة، هل هو قائمٌ بما عليه ولم يبق إلا واجب المؤسسات المتمثل في السلطة؟ أم أنه هو أيضا يحتاج إلى نضال لتقويم طبيعته وتنمية مستواه الثقافي والارتقاء به؟

وأما معركة المؤسسات المتمثلة في السلطة، هل هي في أحسن حال كما تقول؟ أم أنها تحتاج إلى إصلاح من داخلها بشكل ما للتأثير على مسارها غير المنتِج وإصلاحه؟

إن الطبقة السياسية هنا وهناك، عوَّدتنا في ممارساتها بلسان الحال ولسان المقال أنها تناضل من أجل الوصول إلى السلطة، ولكن كيف؟ ولماذا؟ وبماذا؟ كلام غير معروض للنقاش؛ بل لم نعرف شيئا إلا ادِّعاء الأولوية أنا أفضل وأنا خير، هذا بالنسبة لمعركة المؤسسات، أما بالنسبة للموقف من معركة الشارع، فليس أكثر من اعتباره وعاءً انتخابيا تحتاجه الطبقة السياسية في المناسبات الخاصة بها، لكن هل الشارع مؤهَّل إلى أن يخوض المعركة السياسية بجدارة ومستحقة؟ أمر يطول شرحه.

ومع أن ما تقوم به الطبقة السياسية مشروع، فالحزب الذي لا يناضل من أجل الوصول إلى السلطة لا يصلح أن يكون إلا تابعا أي مواليا وكفى، وكذلك استثماره في الشارع كوعاء انتخابي في تلك الناسبات المعروفة، ولكن ذلك جانب من النضال وليس كله؛ لأن النضال في أصوله هو تأطير الشعب وتأهيله بتدريبه على كيفية ممارسة السياسة، متى يعارض؟ ومتى يوالي؟ ومتى يطالب؟ ومتى يهتم بنفسه فيقوم بواجباته؟ والكيفية التي يعارض بها ويوالي ويطالب ويقوم بواجباته، وقبل ذلك كله، لا بدّ من وجود مشروع سياسي اجتماعي واضح يتقدم به الحزب أو السلطة وإقناع الشارع به وتحميله مسؤولية اختياره لهذا البرنامج أو ذاك.

كل ذلك لا تستطيعه الطبقة السياسية ما دامت مُبعِدة لنخب المجتمع ومهمِّشة لها؛ بل يستحيل على الطبقة السياسية أن تتقدم إن لم تُشرك هذه الفئة في ما تقوم به؛ لأنَّ ما بين أطراف الطبقة السياسية من خلافات وصراعات على المناصب والوعاء الانتخابي لا يُمَكِّنها من الحقائق التي يريد الشعبُ الوصولَ إليها ومعالجتها.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!