-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

الحرب على الفساد لن تضع أوزارها

الحرب على الفساد لن تضع أوزارها

في خطابه للأمة أمام غرفتي البرلمان، كشف رئيس الجمهورية، عبد المجيد تبون، عن مؤشرين خطيرين يتعلقان بمظاهر الفساد الذي أتى على الأخضر واليابس في زمن ترهّل الدولة وتغوّل القوى غير الدستورية من أركان العصابة.

حين كان اللصوص ينهبون من الخزينة العمومية تحت غطاء الاستثمار، بلغت القروض البنكية خلال مدة محدودة 5000 مليار دج، (ما يوازي 42 مليار دولار بسعر الصرف آنذاك)، من دون أي أثر اقتصادي معتبر أو قيمة مضافة فعلية في الإنتاج الوطني.

والأسوأ من ذلك، أن تلك الأموال العمومية الطائلة ذهبت في مهب الريح، حيث لم يسدّد منها سوى 10 بالمائة، وفق تصريح الرئيس تبون، إذ كان كل شيء يحوّل الى الخارج.

لعل المكسب المحقّق حتى الآن بهذا الصدد، هو تمكّن الدولة عن طريق العدالة من استرجاع ما يفوق الـ30 مليار دولار من ممتلكات وعقارات ووحدات صناعية وأموال المتورطين في الفساد الممنهج خلال العهد البائد.

وإذا كان الرئيس تبون قد طمأن الجزائريين بمواصلة العمل بلا هوادة من أجل استرداد كل ما تم تهريبه إلى خارج الوطن، خاصة في ظل جاهزية دول أوروبية للتعاون القضائي، فإنه ينبغي التنبيه إلى أن توسيع دائرة الحساب والعقاب في الداخل، بصفة عمودية، عبر كل الإدارات الجهوية والمحلية سيكشف عن حجم كبير من استشراء الفساد.

لا يخفى على أحد من الجزائريين أن بلوى النهب والتبديد والتلاعب بثروات الأمة قد عمّت  قبل حراك 22 فبراير المبارك، حتى شاعت اللصوصية في كل المستويات والقطاعات من أعلى مراتب المسؤولية برئاسة الجمهورية إلى أدناها وسط الجماعات المحلية، وهو ما أثبتته فضائح المحاكمات المتعاقبة منذ 2019، حيث جرجرت التحقيقات الوزراء والولاة والمستشارين إلى أروقة المحاكم وزنزانات السجون، لتكشف عن استهتار غير مسبوق ولا متخيل بأموال الشعب في زمن تفسخ السلطة وفقدان الشرعية، إذ رآها هؤلاء المجرمون في حق الوطن فرصة آمنة، للعبث بمقدرات البلاد وتحقيق أطماعهم المادية الدنيئة، من دون أي رادع قانوني ولا وازع أخلاقي ولا خوف من رقابة المجتمع.

لذلك، سيكتب التاريخ أنّ الرئيس عبد المجيد تبون خاض حربًا شجاعة في مطاردة الفاسدين، جاعلا منها أولوية قصوى ضمن التزاماته الانتخابية وتنفيذ برنامجه الرئاسي، وها هي تؤتي اليوم أكلها بقطع دابر الآفة الفتّاكة تدريجيا.

لكن الحرب على الفساد لا يمكن أن تنتهي بحصد الرؤوس الكبيرة فقط من أوزان الصف الأول على أهميتها، بل يجب أن يظل سيف القانون مشهرا حتى يقطع كل الأذناب الطويلة والمتوسطة والصغيرة التي جعلت من مشاريع التجهيز والصفقات العمومية سبيلا غير مشروع للثراء الفاحش، بالمنح غير المستحق والتحايل وتضخيم الفواتير ومخالفة التشريع مقابل مزايا خاصة.

ما أكثر المتواطئين في الفساد خلال سنوات البحبوحة المهدورة، من الولاة والمديرين التنفيذيين ورؤساء البلديات والآمرين بالصرف في كل المستويات والمحاسبين والمراقبين الماليين والمقاولين والممونّين وآخرين من أعوان الدولة، ولا شك أن مصالح الرقابة الأمنية والإدارية تملك الملفات أو على الأقل المؤشرات الأولية بخصوصها.

بل إن الموظفين البسطاء والفاعلين من المجتمع المدني والمنتخبين السابقين، إذا توفرت فيهم النزاهة للوطن، يمكنهم أن يكونوا همزة وصل في الحرب على بقايا الفساد، من خلال التبليغ عن كل الوقائع والملفات المشبوهة إلى الجهات القضائية للتكفل بالتحقيق والفصل فيها.

في كل ولاية وبلدية وحي، هناك من يشار إليهم بالبنان من أثرياء عشريتي النهب العام، ويعرفهم الناس كيف تحولوا بين عشية وضحاها من حفاة عراة إلى متطاولين في البنيان والمركبات الفارهة، وإذا لم تصل المعركة الساخنة ضد الفساد إلى معاقلهم، لينالوا جزاءهم المستحق، وتسترجع الدولة حقوقها المالية كاملة، فإنها ستبقى حربا مفتوحة إلى إشعار آخر.

إن جرائم الفساد لا ينبغي لها أن تسقط بالتقادم ولا يمكن أيضا تطهير البلاد من آثاره بإسقاط الرؤوس الكبيرة وحدها، بل وجب محاسبة الجميع في الجزائر العميقة، لأن المال العام واحد والدفاع عنه لا يتجزأ، ولعل ذلك ما نفهمه من رسالة الرئيس تبون في خطابه الأخير حين صرح أن “الخطوات الأولى إيجابية ولا يزال المشوار طويلا”، حتى وإن جاءت في سياق آخر، لكنها تعبّر فعلا عن كل المنجزات، وفي مقدمتها أخلقة الحياة العامة.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!