-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

الحلقة (27): شيوخ ينكرون السجع في القرآن

خير الدين هني
  • 706
  • 0
الحلقة (27): شيوخ ينكرون السجع في القرآن

يوجد البعض من الشيوخ ينكرون السجع في القرآن الكريم، وها أنا أورد ما قاله أحدهم في شأن السجع في القرآن: “ومِن هُنا فإنَّ توهّمَ البعضِ بأنَّ في القُرآنِ سجعاً ليسَ صحيحاً؛ لأن ليسَ كلُّ كلامٍ موزونٍ يُعدُّ سجعاً، والضّابطُ في ذلكَ أنَّ السّجعَ يكونُ المعنى فيهِ تابعاً للّفظِ، وهذا خلافُ القُرآنِ الذي يكونُ اللّفظُ فيهِ تابِعاً للمعنى، يقولُ الباقلانيّ في إعجازِ القُرآنِ: وفصلٌ بينَ أن ينتظمَ الكلامُ في نفسِه بألفاظِه التي تُؤدّي المعنى المقصودَ فيه، وبينَ أن يكونَ المعنى مُنتظماً دونَ اللّفظِ، ومتى ارتبطَ المعنى بالسّجعِ كانَت إفادةُ السّجعِ كإفادةِ غيرِه، ومتى انتظمَ المعنى بنفسِه دونَ السّجعِ، كانَ مُستجلِباً لتحسينِ الكلامِ دونَ تصحيحِ المعنى”.
وقال آخرون: “هذا الكلامُ لا ينسجمُ معَ طبيعةِ القُرآنِ، حيثُ لا يُعقلُ أن يأتي القُرآنُ بالسّجعِ ثمَّ يتحدّى العربَ بأن يأتوا بمثلِه؟ وقَد أعجزَ القرآنُ العربَ بما فيهِ مِن نُظمٍ مُحكمةٍ وأنساقٍ مُتماسكةٍ وعباراتٍ واضحةٍ مِمّا جعلَهُ في غِنىً عنِ التّكلّفِ بالمحاسنِ اللّفظيّةِ كالسّجعِ، فقَد جمعَ القُرآنُ بينَ قوّةِ اللّفظِ ودلالةِ المعنى، وعليهِ هُناكَ فرقٌ بينَ تكلّفِ السّجعِ الذي يستقبحُه العربُ وبينَ ما يأتي موزوناً بما تسمحُ بهِ القرائحُ والمعاني”.

التدليس على الحق يشوّش العقول المؤمنة
وهذا التدليس والتغطية على الحقيقة من شيوخ، لا يفهم الناس طرق تفكيرهم ومناهج استدلالهم، هو ما شكل إحدى المشكلات العويصة، التي أصبحت تواجه الشباب المتعلم من نخبة المسلمين اليوم، فبعض المسلمين يثبتون السجع في القرآن والحديث، والبعض الآخر ينفيه ليبين للناس أن القرآن لم يأت متأثرا بفنّ التأليف الجاهلي، ولكن الحقيقة كما تقدم بيانها أننا نقول لهؤلاء الشيوخ –غفر الله لهم على حسن نياتهم وأجزل لهم الثواب على قصدهم النبيل-، ونقول كذلك للمرجفين والشكّاك ومارقي العصر: إن القرآن الكريم جاء فيه سجع واضح مطابق لما جاء مُعرّفا به السجع في علم البديع، (وهو توافق الفواصل في الحرف الأخير من الجمل)، ولا تكلّف فيه ولا تصنّع ولا يأتي على حساب المعنى، والغاية الكبرى من نزول القرآن مسجوعا في الفترة المكية بخاصة، هو إعجاز بلغاء العرب وفصحاء المشركين، بأن سجع القرآن جاء مطابقا للتعريف البلاغي تطابقا كليا، ولكنه يخالف الطريقة التركيبية وجرس النغم الصوتي للسجع الذي درج على نظمه العرب، وهذا جزء من الإعجاز اللفظي في القرآن الكريم الذي يعجز على محاكاته البشر، ويقيم عليهم الحجة على أنه كلام الله المنزل من السماء وليس كلام محمد صلّى الله عليه وسلّم، والإعجاز في سجع القرآن جاء على غير سابق مثال في سجع الفصحاء والبلغاء من شعراء العرب وخطبائهم وحكمائهم، وهم يومئذ أقدر الناس على تأليف الكلام وتدبيجه وتنظيمه على نسق بديع، فجاء القرآن الكريم يتحداهم بأن يأتوا بمثله، وهذا ما أشار إليه الوليد بن المغيرة في كلمته الشهيرة التي أذاعها في قريش وتناقلها عنه المشركون.
ولما كان السجع في القرآن يختلف عن غيره مما سواه في كلام العرب، ولم يأت تكلّفا ولا تصنّعا ولا تركيبا جاءت فواصل الآيات لتنتقل من صوت منغّم إلى صوت منغّم آخر مراعاة للمعنى، خلافا لسجع الكهان الذي تأتي فيه بعض السجعات غامضة مبهمة متكلّفة على حساب المعنى، إضافة إلى الفروق الكبيرة في الطريقة التركيبية والنسقية للألفاظ والكلمات والجمل، والأسجاع والترنيم العام الذي يتركه جرس الإيقاع الموسيقي في توالي الفواصل حين نقرأها في القرآن الكريم وحين نسمعها في أسجاع الكهان والخطباء.
فجرس الأصوات في آيات القرآن يأتي على نغم واحد (رِتْم)، من غير نزول بركاكة وإسفاف أو اضطراب في استئناف الجمل أو ربط بينها بالحروف أو انتقال من معنى إلى معنى آخر، أو نزول في الحبك والسبك والجزالة والطلاوة أو في التركيب والإنشاء أو صعود وسمو ورفعة، على نحو كلام البشر الذي نراه يعلو ويسمو تارة في قوة السبك والحبك، وينزل وينخفض تارة أخرى بركاكة أو نشاز نغم صوت حين الاستئناف أو الربط أو الانتقال من معنى إلى آخر، وآيات القرآن الكريم لها معان متباعدة عن بعضها البعض في السورة الواحدة، بسبب مناسبة النزول واختلاف المواضيع ومعانيها المطروقة، مما يشكل بنية معنوية عامة ليست لها وحدة معنوية واحدة، ومع هذا الاختلاف بين المعاني والتباعد بينها فإن القارئ العادي أو صاحب التأهيل البسيط، لا يشعر بهذا الانتقال الجملي أو المعنوي، وأصحاب التأهيل العالي هم وحدهم من يلحظون هذا الانتقال الجملي والمعنوي، عند التركيز في التلاوة والتدبر في أحكامها ومعانيها، وحين التدقيق في أساليب الحبك يرون طرقا عجيبة وغريبة في الترابط بين الآيات في السورة الواحدة وكأنها تمثل وحدة معنوية واحدة، وهذه الصورة التركيبية والنسقية تعدّ إحدى أرقى صور الإعجاز اللفظي التي تميز القرآن عن غيره من كلام العرب.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!