-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع
رحلة مع ذي القرنين

الخير عند الله مذكور ولو نسيه النّاس

أبو جرة سلطاني
  • 486
  • 0
الخير عند الله مذكور ولو نسيه النّاس

بفقه المعاني الكليّة آنفة الذّكر، نفهم أنّ الغاية الأولى من قصّ شيء من ذكر حياة ذي القرنيْن هي تقرير حقيقة فعل الخير؛ فما يقدّمه الإنسان للبشريّة من نفْع وصلاح وعدل ودعوة، هو خير مذكور عند الله ومنوّه به ولو نسيّه الناس. فإذا كانت نية فاعله إمضاء العدل ومناهضة الجور ومقاومة الطّغيان، فلن يضيع أجر فاعله إذا كان في نيته أنه فعله لوجه الله.

أوردتْ هذه القصّة أجدى ما قام به ذو القرنيْن وأنفع ما أنجزه، وأسندته -على لسانه- إلى رحمة الله بعباده، تماما كما نطق به لسان الخضر رضي الله عنه؛ فقد قال في ختام لقائه بموسى -عليه السّلام- وهو يودّعه: إنّ ما صنعه كان: ((رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي)) (الكهف: 82). فردّدها ذو القرنيْن، بعد نهاية مهمّته الكبرى ببناء السدّ الحاجز بين الخير والشرّ: ((قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي)) (الكهف: 98). لتقرير قاعدة عامة في عمل الخير وهي: أنّ كلّ نافع من العمل هو من رحمة الله بعباده؛ فهو من يسخّر القادرين لخدمة المستضعفين رحمة منه. بهذا الفقه يقتدي العاملون بمن سبقهم من أهل العدل والصّلاح رحمةً من ربّهم، وفي مثل هذا يتنافس المتنافسون.

من هذه المعاني الكليّة تُستنبط دروس العلم والاقتداء والرّشاد والبناء والإصلاح وفعل الخيرات دون مقابل. وتُستخلص قيم الحقّ ومعاني العدل والجمال، بإطلاق غير مقيّد ولو كان المعروف في غير ذي كبد رطب: فإماطة الأذى عن الطريق شُعبة من شُعب الإيمان. ففي المتّفق عليه من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أنّ رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- قال: “الإيمان بضع وسبعون، أو بضع وستّون، شعبة. فأفضلها قو لا إله إّ الله. وأدناها إماطة الأذى عن الطّريق. والحياء شعبة من الإيمان”.

وهو ما جاء تقريره في سيرة ذي القرنيْن للتّدليل على أنه كان رجلا صالحًا عادلا صارما في الحكم منجزا لما يُوكَل إليه؛ ففي محطّات رحلته الثّلاث ترك أثارًا طيّبة تصلح منهجا عامّا لسيّاسة الدّنيا في علاقة الحاكم بالرّعيّة، وفي تدبير شؤون الحياة بإصلاح واقع النّاس وحجز الشرّ عنهم والحدّ من توسّع دوائره ومحاصرة بؤر الفساد وإقامة حواجز بينه وبين الصّلاح في مفهوم “الحجْر الإيماني” الذي افتقدته الإنسانيّة اليوم إلاّ قليلا.

جاءت قصّة ذي القرنيْن جوابا على سؤال تواطأ اليهود ومشركو مكّة على دسّه لرسول الله -عليه الصّلاة والسّلام- بنية إحراجه في مسألة تاريخيّة موغلة في القدم، لم يكن أحدٌ من العرب يعرف عنها شيئًا. وكان طبيعيّا أن يقول رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- لا أعلم فلست مختصّا في تاريخ الأوّلين، لكنّ الله -جل جلاله- شاء أنْ يقطع عن المتآمرين الطّريق بتحويل كلّ سؤال معجز إلى فرصة لبيان الحقّ وكشْف المزيد من أسرار نبوّة من أرسله وتحويل استفسار المشركين وحيل أهل الكتاب مناسبةً لخدمة الرّسالة واستكمال بنائها عمليّا في جانب من جوانبها الأساسيّة عقيدة أو شريعة أو خلقا أو تدابير حياة وأحكام ملك في السّلم والحرب.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!