الرأي

الدكتوراه والتأهيل و”تقييم الأقران”

الكل يعلم معاناة طلبة الدكتوراه عندنا، وكذا طالبي التأهيل الجامعي، في نشر أبحاثهم لنيل مثل تلك الاستحقاقات؛ فقانون وزارة التعليم العالي يقضي بضرورة نشر بحث لطالب الدكتوراه قبل المناقشة، وبحث آخر قبل الحصول على التأهيل الجامعي. ولا بدَّ من نشر البحثين في مجلات تمرّ بمراجعة وتقييم ما يسمى بـ”الأقران”. ويُقصد بـ”الأقران” الباحثون المرموقون الذين هم على دراية بمجال الاختصاص الذي يشمل موضوع المقال.

تقييم “الأقران”

لقد ازداد الطلب على “الأقران” عبر العالم، وتضاعف أكثر عندنا بتزايد عدد طالبي شهادة الدكتوراه والتأهيل الجامعي. لكن، حتى يقوم “الأقران” بواجبهم لا بد أن تتوفر فيهم بعض الشروط. ومن هذه الشروط أن يتم اختيار “القرين” المناسب من قبل المجلة، بمعنى أن يكون اختصاصه لصيق اختصاص صاحب البحث. ومن جهة أخرى، ينبغي أن يُحسن التعبير الكتابي بلغة المجلة، وأن يكون له متَّسعٌ من الوقت (قد يكون طويلا) ليتحقق من جميع جوانب البحث محلّ الخبرة. كما يتعيّن على القرين أن يكون مُلمّا بما صدر من بحوث وأدبيات ذات الصلة بالمقال المعروض عليه، وأن يكون مطلعا على أحدث البحوث ليبتّ عن دراية في صلاحية وأصالة البحث المقدَّم وجدّة مضمونه. وبطبيعة الحال، فهذا القرين ينبغي أن يكون نزيها في أحكامه، ولا يضخِّم الثغرات في المقال ولا يستنقص من عمل المؤلف، وإلا أساء إلى جدية التقييم.

السؤال الذي يمكن طرحه الآن: أين يمكن أن نجد مثل هذا “القرين” المثالي الذي تزايد الطلب عليه حتى ظنناه قد انقرض!؟ ناهيك أننا لا نحتاج إلى عددٍ ضئيل من هؤلاء، بل إنّ تكاثر المجلات والمقالات التي تصلها بقدر لا يُحصى يتطلب وجود عدد خيالي من “الأقران”! فعلى سبيل المثال، لا الحصر، نلاحظ أن شركة “إلسيفير” Elsevier الهولندية البريطانية كانت تشرف على 10 مجلات قبل بضعة عقود، أما الآن فهي تتربّع على عرش 2500 مجلة تُصدر عشرات بل مئات آلاف البحوث سنويا.

وماذا يحدث في المجلات الغربية؟ من جرّاء ذلك فإنَّ الوضع يزداد صعوبة يوما بعد يوم في موضوع إيجاد “الأقران” لتحكيم البحوث المقدَّمة للمجلات. وهناك من المجلات من يطلب “قرينا” واحدا، ومنهم من يطلب اثنين وثلاثة، وبعد تسلّم تقاريرهم، تبتّ هيئة التحرير في مصير البحث وقابلية نشره. وكم من باحثٍ ظُلم في هذه العملية… وكم من باحثين مرّوا بسلام ونُشرت أبحاثهم رغم هزالها وأخطائها. ومن الأسباب الواضحة المؤدية لهذا الخلل أن المجلة لم تُحسن اختيار “القرين”، أو كان وقته ضيقا ولم يستطع تخصيص المدة الكافية لتمحيص المخطوط الذي كُلف بتقييمه. وما يزيد الطين بلة في مجال التحكيم أن عمل “الأقران” عملٌ مجاني وتطوعي.

يترتّب على ذلك أن “القرين” غالبا ما يلقي نظرة خاطفة على البحث لوضعه في خانة “السالب” أو “الموجب”. وبعد هذا التصنيف، وتلخيص المضمون، يشير إلى عيوب و/ أو محاسن المقال، وذلك بدون الدخول في أعماق البحث وتفحّصه عن كثب، وكل ما يريده هو تبرير مستعجل لقراره (الإيجابي أو السلبي).

ومن السهل أن يتعرّف المؤلف على مدى جدية “القرين” عند تلقي تقريره، لأن هذا المؤلف أعلم من غيره بمحتوى مقاله؛ فإذا لم يتعرض المقيّم إلى النقاط الحساسة في البحث، فهذا يعني أنه لم يطّلع عليها أو لم يتمعّن فيها. ذلك أيضا ما نلاحظه لدى بعض أعضاء مناقشة رسائل الدكتوراه، فالذين يقضون وقتهم في الإشارة إلى نقص حرف الباء في الصفحة 30، ونسيان الرجوع إلى السطر في الصفحة 40… بدل مدّ الطالب بهذه الملاحظات مكتوبة والتركيز خلال المناقشة  على الأهم، أي على الأفكار، هؤلاء لم يقوموا بمهامهم كممتحنين.

النشر من أجل الدكتوراه والتأهيل

وفي المجلات الوطنية: هناك صعوبة أكبر في إيجاد “القرين” الكفء في الداخل. وما يعاني منه هؤلاء “الأقران” أن جلّلهم لا يلمّون بأساليب التحكيم وفق المعايير المتداولة، ولا يحسنون تقديم تقرير طبقا للمواصفات المطلوبة. ثم إن كثرة المجلات الوطنية التي يتهافت عليها طلبة الدكتوراه والتأهيل بمقالاتهم يزيد الوضع سوءًا. كما أن عدد البحوث المعروضة عليها تفوق بكثير طاقة كل مجلة. فإذا كان الكمّ يتجاوز إمكانات المجلات، وإن كانت المجلات لا تجد “الأقران” الأكفاء، من حقنا أن نتساءل: ما الفائدة أن نفرض على طالب الدكتوراه نشر بحث في مجلة من هذا القبيل؟ إنها مضيعة لوقت الجميع وخسارة مادية في الورق ومصاريف النشر. نقول ذلك، مع إيماننا بأن نيَّة الوزارة كانت صادقة يوم سنّت هذا القانون، إذ كان المسعى يرمي إلى إضفاء جدية أكثر على شهاداتنا. لكن الوضع الراهن ضربه في الصميم، ولم يعد يجدي نفعا.

ولذلك وجب على الوزارة إيجاد سبيل آخر لتحقيق مسعاها. ومن الحلول التي يمكن أن نفكر فيها، فتح منصة يُدخل فيها طالب الدكتوراه ملخصا وافيا لمحتوى رسالته بعد الانتهاء من إعدادها. وتكوّن الوصاية شبكة دائمة من “الأقران” في كل اختصاص يُطلب من بعضهم إبداء رأيهم الإجمالي في العمل (كتقييم أولي) دون طلب نشره، فإن كان التقييم إيجابيا سُمح للطالب بالمناقشة، وإن كان الأمر عكس ذلك فلا يسمح له بالمناقشة ويُمنع من إعادة وضع ملخص مرة ثانية قبل عدة شهور (مثلا 3 أشهر) حتى يحسِّن من عمله ببذل المزيد من الجهد.

أما طالب التأهيل الجامعي -الذي يعني أن صاحبه ستكون له مهمة الإشراف على رسائل الدكتوراه وتحديد المواضيع البحثية المناسِبة لذلك- فنعتقد أنه من العبث مطالبته بكتابة مطبوعة جرت العادة على تجميع محتواها من هنا وهناك في مواقع الإنترنت ومختلف المؤلفات في عملية أقرب إلى السرقات العلمية المقننة. ثم ماذا سيكون محتوى مطبوعة من هذا القبيل؟ إنه مضمون مقرر دراسي أو جزء منه ساهم المترشح للتأهيل في تدريسه. وأخيرا: وماذا ستضيف هذه المطبوعة للأستاذ أو الطالب زيادة على المراجع المتوفرة؟ لا شيء! علينا ألا ننسى أن نفس المقرر يتداول على تقديمه ضمن مطبوعات العشرات، بل المئات، من هؤلاء المترشحين. ولذا نقول إننا إذا استثنينا بعض المطبوعات منها، فباقيها يُعَدّ هدرا لوقت الجميع ولجهودهم.

وبدل ذلك، فالأجدى أن نطالب المترشح للتأهيل الجامعي بنشر أكثر من مقال في مجلات أجنبية جيدة التصنيف حتى لو استدعى منه ذلك عدة سنوات من العمل، ولا بأس أن ينشر المزيد في المجلات الوطنية. ولِمَ لا يكون الأمر كذلك… إذا ما أردنا أن يكون هذا المدرِّس “مؤهَّلاً” حقا للقيام بمهام جديدة ليست هينة، فمن المؤسف في هذا السياق أنه من خلال احتكاكنا المتواصل بمترشحي التأهيل الجامعي، نكتشف في كل مرة أنهم ينظرون إليه على أنه مجرد ترقية في المنصب وزيادة في الراتب لا أكثر، ولا يلمّون بواجباته الدقيقة والخطيرة التي ستُلقى على عاتقهم.

كل ذلك يدعونا إلى إعادة ترتيب دار الدكتوراه والتأهيل الجامعي والسعي إلى إيجاد حلول أنجع تفيد البلاد والعباد.

مقالات ذات صلة