الرأي

الدكتور أحمد الرفاعي شرفي.. “فقدنا رجلا من جيل الصحابة”

أبو جرة سلطاني
  • 5518
  • 34

يوم الأربعاء 28 ماي 2014 انتقل الشيخ أحمد الرفاعي شرفي إلى رحمة الله مخلفا وراءه جيلاً كاملاً من الشباب الذين تربوا على يديه وتأثروا بسيرته التي تذكر كل من عاصره بجيل الصحابة (عليهم الرضوان) كما ترك فقيد الصحوة كثيرا من الكتب المطبوعة والمخطوطة آخرها: “جراح التاريخ وعاهاته” الذي أهدانيه يوم الجمعة 16 ماي 2014 في آخر زيارة جمعتني به قبل أن أفجع بوفاته وقد كان مهمومًا بوضع اللمسات الأخيرة على كتاب جامع نقيم فيه مسار الصحوة، وقد قال لي جادًا: إذا لم يمد الله في عمري فإني أوصيك بأن تستكمل هذا الجهد العلمي الدعوي وتعمل على نشره وتوزيعه.

تعرفت على “شيخي” أحمد الرفاعي شرفي عام 1977  في جامعة قسنطينة وبسرعة الإيمان توطدت العلاقة بيننا وتجذرت وعرفت طريقها إلى القوة الإسلامية وإلى ميدان العمل الدعوي، ثم أرست على شاطئ الدعوة إلى الله التي كانت يوم ذاك محاصرة من جهاتها الأربع، بل كان الإسلام نفسه محاصرا بإرادة أعدائه وسذاجة أدعيائه:

محاصرًا بالاشتراكية الشيوعية من دعاة اليسار.

ومحاصرًا بالفرنكوفونية من دعاة التغريب.

وبالعلمانية الزاحفة من الشمال وبجهل أبنائه مشرقًا ومغربًا وتهجم أدعيائه عليه عربًا وعجمًا. 

كنا في هذه الأجواء المحاصرة نبحث عن منفذ للدعوة في بيئة معادية للدين ومحاربة لكل متحدث بلغة القرآن، بعد أن أحس النظام الإشتراكي المهيمن وقتذاك على كل ناطق وصانت بأن “صحوة ما” بدأت تعمل في الدهاليز وتتحرك في الكواليس وتزرع بذورها الأولى في الجامعات وفي المساجد الشعبية وفي أحياء بيوت الصفيح.

بدأت على بركة الله مسيرة الدعوة، ولم تنقطع صحبتنا سبعًا وثلاثين (37) سنة ولم تخرج أخوتنا عن الخط الذي رسمناه لها. ذات ليلة قائمة ـ رفقة أخوين آخرين ـ تعاهدنا فيها على خدمة هذا الدين في حدود الاستطاعة وبجميع الوسائل المتاحة لتحقيق ثلاثة أهداف جوهرية لم تكن في ذلك الوقت واضحة بالقدر الكافي:

بيان الإسلام الصحيح للناس قرآنا وسنّة.

مكافحة الإنحراف والآفات الإجتماعية، أمرًا بالمعروف ونهيًا عن المنكر.

تنظيم جهود العاملين في مجال الصحوة وتوجيهها لخدمة هدف كبير.

كانت المسافة الواصلة بين المنطلقات والأهداف واسعة وشاقة ولكننا بدأنا مسافة الألف ميل بخطوة واحدة، اتفقنا في الكثير واختلفنا في القليل ولكن أخوتنا” كانت فوق كل الإعتبارات لأنه هو شخصيًا (رحمة الله عليه) كان حريصًا على معاملة كل من يحاورهم أو يتعايش معهم بأخلاق الصحابة (عليهم الرضوان) بنفس الحرص على سدّ كل المنافذ المؤدية إلى حظوظ النفس أو وسوسات الشياطين، وكان لا يترك فرصة تمر دون أن يذكر بالأمانة وتكاليفها ويحمل كل من يتحدث إليه مسؤولية الإسلام والدعوة، وظل كذلك حتى في لحظاته الأخيرة ـ قبل أن يلفظ أنفساه فقد كان يتحدث عن عظمة هذا الدين وعن قدرته على تحقيق الانتصارات حتى لو انهزم المنتسبون إليه جميعا فهو صاحب فكرة “عصر الإسلام الثاني” إسلام القرآن والسنّة وليس مزاعم قشور المسلمين الذين يقول عنهم إنهم سيسوا الدين ولم يسلموا السياسية، ففسد الدين وفسدت السياسة..

أترك الشيخ أحمد الرفاعي يتحدث عن مفهومه بهذه الفكرة:

أرفض وأنكر اعتبار المسؤولين وحدهم هم المفسدين وهم الظالمين وسواهم ضحايا

أبرياء، فكلنا مفسدون بالمشاركة أو بالصمت وكلنا مساهمون في الظلم بعدم بيان العدل، وأبدأ بنفسي فأدينها وأقرّ بأنني مخطئ ومقصر في حق الله تعالى وفي حق أسرتي وأمتي الإسلامية.

أرفض وأنكر النظر إلى قضايا المسلمين من خلال مسجد معين أو جماعة معينة أو عمل خيري معين… وأغض الطرف عن عشرات الملايين ومئات الملايين من المسلمين الذين لا نشعر بحاجتهم وحرمانهم وما يعانون من الظلم والقطيعة من طرف إخوانهم في العقيدة في كل أصقاع الدنيا.

أرفض الخطاب التبريري وخطاب المزايدات والمناسبات وخطاب الرياء والنفاق… كل ذلك أرفضه من منطلقات شرعية وأخلاقية وتاريخية..

فأنا لا أخاطب المسلمين ككاتب ولا أكتب عن الإسلام كمفكر ولا أستخدم الأساليب التقليدية المحنطة لكنني أتنفس آلامي وآلام أمتي من خلال القلم والكلمات بصفتي مسلما يلاحظ سقوط حضارته ولا يملك إلاّ أن يصرخ في وجه جميع أبناء جلدته بالخطر الداهم لأن الانتماء واحد والجرح واحد والدم واحد وأملنا في الله عز وجلّ واحد.

جريمتنا المشتركة أننا وقعنا جميعا في خطأ تسييس الإسلام وتحزيب الصحوة فنتج عن ذلك فساد في التصور وتزييف للمفاهيم وصارت الوصاية السياسية والأساليب الإدارية مهيمنة على الدين والدعوة وباسطة سلطانها على حياة الناس ولغتهم وفكرهم وطرق عيشهم…لذلك لابد من تحرير وتقويم:

تحرير الدين من الوصاية السياسية والهيمنة الإدارية.

تحرير الفتوى من كهنوت الإدارة ومصالح الحكام.

تحرير وعي الإنسان من الموروث الفاسد والجامد والجاحد،

تحرير الرأي الفردي من الأحكام الجاهزة والقرارات الجائرة.

وتقويم المسيرة التاريخية للصحوة منطلقات وأهداف وإخفاقات ومحاسبة..

إننا كمسلمين نعيش وضعا غير طبيعي تجاه هويتنا وانتمائنا ورسالتنا في الوجود ونهادن أوضاع غير صحية خلقًا وإنسانية وليست مقبولة في ميزان الولاء وخصائص الإنتماء وهو ما شكل تناقض بين ما نحن فيه وما ينبغي أن نكون عليه، وقد شكل ذلك خطأ جسيمًا تحول بالتراكم إلى جريمة في حق الإنسانية جمعاء عندما صرنا عبئا على البشرية ونسينا رسالتنا فما بلغناها، وقيامنا فلم نحافظ عليها ناهيك عن تجسيدها في حياتنا وسلوكاتنا وعلاقاتنا بالناس.

رحل عنا رجل من جيل الصحابة خلقا ودعوةً وحرقةً على دينه وأمته، رحل وفي نفسه كثير من جراح التاريخ وأخطاء المسلمين وحسرات الصحوة وغصص بعض المتحدثين باسم الصحوة من الذين كلما منحهم القدر فرصة للإصلاح أهدروها بخلافاتهم، وكلما بنا فريق لَبِنَة في جدار الأمة قام من يهدم الجدار كله لأنه لا يقبل أن يعلو صرح الإسلام إلاّ على يديه.

يقول “الشيخ” رحمه الله: “إذا كانت أخطاؤنا كثيرة وجسيمة تاريخيا وواقعيا فإن أشنعها هو المبالغة في تزكية أنفسنا وتبريرها من كل خطأ وإلقاء اللوم على الحكام وحدهم والتبعية على الإستعمار والجهات الخارجية، والواقع أن خصومنا يستغلون أخطائنا لحماية مصالحهم وهذا حقهم الطبيعي، بينما العدو الأكبر والأخطر على المسلمين هم المسلمون أنفسهم الذين قدموا للبشرية أسوء النماذج التي لم تثمر بها الصحوة ولم ينهض بها الدين.

رحمك الله يا أبا تميم، فقد تعلمنا منك التواضع والصدق، وتعلمنا منك الشجاعة وكلمة الحق، وتعلمنا منك الصدع بالحجة مهما كانت النتائج وحاولنا مجاراتك في سمتك وتعاملك مع من يحيطون بك فما أحد منا استطاع أن يشق لك غبار، ولم نعرف حقيقة ما كنت تخفي من أسرار وأنت بيننا حيّا فلما فقدناك شعرنا أننا خسرنا رجلاً من قامة جيل الصحابة كان يعظنا بحب ويعلمنا برفق ويدفع بنا إلى ساحات الصحوة بثقة الوالد وحنان الوالدة، فلما انتقلت إلى رحمة الله أصابتنا حالة من اليتم الدعوي..

ألسنا كلنا أيتام دعوة؟

لقد سيسنا الصحوة فاختلفنا وحزبنا الدعوة فجمدنا ونقلنا الإسلام من القيادة إلى الاقتراح فضاع شعارنا وتحولت وسائلنا إلى غايات فانخفض سقفنا وصورنا في عيون الناس وصرنا أضيع من الأيتام في مؤدبة اللئام ونحن اليوم بين خيارين، إما أن نكون أهلاً لإعادة بعث الصحوة وإما أن نرتقب حالة استبدال بقوم غيرنا ثم لا يكونوا أمثالنا.

هكذا كان يعتقد شيخنا رحمه الله.

رحمك الله يا أبا تميم”

مقالات ذات صلة