الرأي

بومدين عاد هذا العام

ح.م
الراحل هواري بو مدين

اثنان وأربعون سنة مرت على رحيل ثاني رؤساء الجزائر هواري بومدين، الرجل الذي كان رحيلُه لغزا محيّرا، جعل الكثيرين، وهم يتبادلون في الأيام الأخيرة خطاباته الخاصة بالوضع في المنطقة العربية وفي الصحراء الغربية والقارة السمراء وفي فرنسا، يشككون في أسباب وفاته في ريعان شبابه السياسي.

أكيدٌ أن للرجل أخطاءه في الكثير من المجالات خاصة الداخلية، فهو لم يترك للجزائر اقتصادا قويا، فكل الثورات التنموية “الكبرى” والمشاريع التي كان قد أعلنها، نسفتها أوَّلُ ريح أزمة هبّت على الجزائر في عهد الرئيس الشاذلي بن جديد، ولكنه في الشأن الدولي تمرّس ومنح للجزائر هيبة، فقد كان جدارا منيعا صدّ كل انحراف سياسي، فبالرغم من أن معاهدة كامب ديفيد أو أول عملية تطبيع عربي صهيوني قد أمضيت قبل وفاته ببضعة أشهر، إلا أنه قاد “جبهة الصمود والتصدِّي” التي اعتبرت المعاهدةَ خيانة كبرى لا تُغتفر، وتمكن من عزل الرئيس المصري أنور السادات عربيا وعاقبه إلى أن اغتيل في 6 أكتوبر 1981 ولم يمش في جنازته إلا القلة من زعماء الوطن العربي، كما حمى الجمهورية الصحراوية باعتراف ما لا يقلّ عن سبعين دولة من كل بلاد العالم في ظرف وجيز، وعزل المخزن حتى قيل من باب الطرافة إن إمكانية اعتراف المملكة المغربية بالصحراء الغربية صار وشيكا.

تبادل الجزائريين بشكل مكثف هذه السنة لخطب الرئيس الراحل هواري بومدين، عبر مواقع التواصل الاجتماعي، بيّن لهم بأن الجزائر امتلكت رجال مواقف كانوا يصنعون الحدث ويقولون كلمتهم من دون خوف أو تحرّج من أي كان، وتأكد بأن الفراغ الذي عاشته الجزائر في العقود الثلاثة الأخيرة إنما تدخلت فيه أطرافٌ كانت تدرك بأن هذا البلد النامي القادم من ثورة كبرى، إنما يصبو إلى القمة بسرعة، فجاءت الطعنات التي اختلفت بين الإرهاب والفساد، إلى أن وجدت الجزائر نفسها في نقطة الصفر، وهي التي كانت رقما قويا بعد قرابة عشر سنوات من الاستقلال.

لقد تغيّر العالم بشكل كبير بعد رحيل هواري بومدين، فقد كان للمظلومين مناصرون كثيرون، وكان للشهامة عناوين في كل الأقطار، فعندما قرر أنور السادات التطبيع مع الصهاينة، استقال وزيرُ خارجيته وسمى الاتفاقية بـ”مذبحة التنازلات”، ونقلت الجامعة العربية مقرّها من القاهرة إلى تونس، وقطعت الجزائر وسوريا والعراق وليبيا واليمن علاقاتها مع مصر، بينما يقود رئيسُ الحكومة المغربي الحالي المنتمي للتيار الإسلامي حفل الاتفاق مع الصهاينة، وترحِّب بلدانٌ عربية بالتطبيع وتقدِّم التهاني للمخزن، ولا يجد الشعب الصحراوي الآن من داعم بعد أن كان له سند في أوروبا الشرقية وكوبا وفي غالبية البلاد الإفريقية وأمريكا اللاتينية.

يشك كل من يتابع خطب هواري بومدين في هذا الزمن التعيس، في أسباب وفاته، فقد كان الرجل مُحرِجا لقوى الاستكبار العالمي بكلامه وبمواقفه، وكان سندا لفلسطين وللصحراء الغربية، فهو أوَّل من خوَّن المطبِّعين وجرَّم مهندسي “المسيرة الخضراء”.

مقالات ذات صلة