-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

بين الإنسان والسّلطة والألوهية

الشروق أونلاين
  • 399
  • 0
بين الإنسان والسّلطة والألوهية
ح.م

لعلّه من أخطر مظاهر انتهاكات حقوق الإنسان عبر المسيرة التاريخية للبشرية هي: تسلّط الإنسان على أخيه الإنسان، بالسّيطرة على عقله وضميره وإرادته، ممّا يرسم أبشع الصّور لهدْرِ كرامته، إمّا بإخضاعه باسم السّلطة أو التحكّم فيه باسم الدّين، مع أنّ الحقيقة الكبرى لعقيدة التوحيد هي نسخ ألوهية البشر، ووضعهم على قدم المساواة أمام الله تعالى، وأنّ هذه العقيدة الصّافية هي التي رفعت إشكالية العلاقة بين السّلطة والألوهية، وأزالت الالتباس بين الدّيني والسياسي.

ومع أنّ الرّسالة الأخلاقية للدّين هي “ثورةٌ تحريرية”، تتلخّص في تحرير الإنسان واسترداد إنسانيته، إلاّ أنّ نشوء الألوهيات بين البشر مستمر، عندما يعطي الإنسانُ لنفسه الحقَّ في التألّه على أخيه الإنسان، وهو من خلفيات الصّراع والتدافع في الحياة، وهي من المعادلات الصعبة للرحلة التاريخية لهدايات السماء في معالجتها، وحلِّ طلاسم انتهاكاتها الصّارخة في وجه الإنسان، عندما يتعرّض إلى أبشع صور الاستبداد السّياسي بالإكراه وهيمنة الطواغيت، ولذلك جاء النّهي الإلهي في قوله تعالى: “لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ، قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنْ الغَيِّ، فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدْ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انفِصَامَ لَهَا، وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (البقرة: 256)، وهو المبدأ الذي يتجلّى فيه التكريم الرّباني للإنسان باحترام إرادته وحريته وعقله. وقد جاء النّهي عن الإكراه بصيغة النّفي المطلق، وهو أعمق أثرًا في الدّلالة على المعنى، لإيقاظ الضمير الإنساني وملامسته، فيكتسِب الإدراكُ البشري التصوّرَ الواضح، ويحوز القلبُ البشري الطمأنينة التامّة، وتتمتّع النفس البشرية بالمشاعر الرّاقية، ويتحقّق في المجتمع الإنساني النّظام السّليم. ذلك أنه من أخصّ خصائص عقيدة التوحيد، ومن عطاءاتها المتدفّقة والمضطّردة هي: التحرّر من عبودية البشر، والشعور بالعزّة والكرامة الإنسانية، وتفجير فاعلية النّضالية والتضحية من أجل الحرّية وحقوق الإنسان، وهي من الأبعاد الحقيقية لهذه العقيدة، ومن ثمراتها الفعلية، ومن امتداداتها الاجتماعية في الحياة.

ومن الظواهر السّياسية التي رصدها القرآن الكريم: إشكالية تماهي الإنسان في السّلطة والألوهية، وقد أخذت حيّزًا واسعًا من تاريخ الإنسان، إذ يفجّر جنون السّلطة حالةً من النرجسية الطاغية في الحاكم، فلا يرى مع نفسه منافسًا أو بديلاً، والتي تبقى تجلّياتُها – وإنْ بأسماءٍ وأشكالٍ مختلفة- حاضرةً وممتدةً في الزّمان والمكان، وتأبى إلاّ أن تتكرّر بشكلٍ واضحٍ أو مستتر، وهو ما يُسمَّى بالشِّرْك السياسي. يخرج الإنسان عن فطرته البشرية لينازع الله تعالى في ألوهيته، وخاصة عندما يتجرّد الحاكم الإنسان (مثل فرعون) من الأخلاق والقيم، بعد امتلاكه أسباب قوّة المال السياسي بالتحالف مع قارون، والتنسيق مع رجال القوّة العسكرية والأمنية مع هامان وجنوده، فإنه يصل تلقائيا ليقول للناس: “ما أريكم إلا ما أرى، وما أهديكم إلا سبيل الرشاد” (غافر: 29)، ويدّعي فيقول: “أنا ربُّكم الأعلى” (النازعات: 24)، ويتماهي حتميًّا في السّلطة والألوهية، فيقول: “ما علمت لكم من إلهٍ غيري..” (القصص: 38)، فلا يرى نفسه إلاّ مشرِّعًا، له الحقّ التاريخي في خضوع الناس له والطاعة المطلقة من دون الله (شِرْك الألوهية)، ولا يجد من نفسه إلاّ متفضّلاً على غيره بالإنجازات، بقوله: “أنا ربُّكم الأعلى “(النازعات:24) بالمعنى اللّغوي: أي مربّيكم والمحسِن إليكم (شِرْك الرّبوبية).

ولأنّ الإسلام نظامٌ شاملٌ يتناول مظاهر الحياة جميعًا، فقد حلّ طلاسم هذه المعادلة الصّعبة بين الإنسان والسّلطة والألوهية، وفق منهجٍ واقعيٍّ، يتمثل في:

1-التأكيد على بشرية الرّسل، وإسقاط الألوهية عن كلّ المخلوقات: ولو كان المتصل بالله، وأحبُّ الخلق إلى الحقّ محمّدٌ “صلى الله عليه وسلّم”، الذي قال: “لا تُطْرُونِي كَمَا أَطْرَتِ النَّصَارَى ابْنَ مَرْيَمَ، فَإِنَّمَا أَنَا عَبْدٌ، فَقُولُوا: عَبْدُ الله وَرَسُولُهُ”، وقوله، زيادةً في التأكيد على صفة البشرية: “إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ، وَإِنَّهُ يَأْتِينِي الْخَصْمُ فَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلحَنَ مِنْ بَعْضٍ فَأَقْضِيَ لَهُ بِذَلِكَ، فَمَنْ قَضـَيْتُ لَهُ بِحَقِّ مُسْـلِمٍ فَإِنَّمَا هِيَ قِطْعَةٌ مِنَ النَّارِ فَلْيَأْخُذْهَا أَوْ فَلْيَتْرُكْهَا.”، وقول أبي بكر الصدّيق رضي الله عنه عند وفاته “صلى الله عليه وسلّم”: (مَن كان يعبد محمدًا فإنّ محمدًا قد مات، ومن كان يعبد الله فإنّ الله حيٌّ لا يموت). وهذا الفرز في الفهم السّياسي لحدود التصوّر عن الإنسان والسّلطة والألوهية هو ما يؤكّد أنْ لا سلطة دينية في الإسلام بالمعنى الثيوقراطي، تستوجب العِصمة للحاكم، والطّاعة المطلقة له، وكأنّه ظلُّ الله في الأرض، بل كما أرْسَى نَسَقًا مفاهيميًّا راقيًّا ودقيقًا، فقال: (أطيعوني ما أطعتُ الله فيكم، فإنْ عصيتُ فلا طاعة لي عليكم..)، وقوله أيضًا: (وُلّيت أمرَكم، ولست بخيركم، فإن أحسنت فأطيعوني، وإن أسأت فقوّموني، ألاَ لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق)، وهو ما يؤكّد أنّ الحاكم في الإسلام هو وكيلٌ وأجيرٌ وخادمٌ للأمّة، وأنّ العقد الاجتماعي الذي يربطه بها هو بمدى التزامه بهذه القيم معها، وأنّ سلطته ليست مطلقة، وأنّ مدّة ولايته ليست مفتوحة، وأنّ إمكانية محاسبته وعزله ممكنة.

2-ضبط حدود العلاقة الطبيعية والشرعية بين الحاكم والمحكوم: وهي مرتكزةٌ على الشرعية السياسية، المستمدّة من إرادة الشّعب، ولو كانت شرعية الرّسول صلى الله عليه وسلّم في شخصيته السياسية، وليست في شخصيته الدّعوية، وهو ما جعل الأمر الإلهي يتوجّه إليه بالشورى ومراعاة العقد السياسي والاجتماعي بالرّضا القلبي منهم، في قوله تعالى: “فبما رحمةٍ من الله لِنتَ لهم، ولو كنت فظًّا غليظ القلب لانفضّوا من حولك، فاعفُ عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر.” (آل عمران: 159)، مع أنه في غِنًى عن رضاهم أو مشاورتهم، مادام مؤيَّدًا ومُسدَّدًا بالوحي. ومرتكزةٌ -أيضًا- على المشروعية في صناعة القرار والأداء في الدّولة، بالصّفة اللازمة والمتبادلة بين الحاكم والمحكوم، وهي: الشورى، التي ورَدَت بين ركنين تعبّدييْن، وهما: الصلاة والزّكاة، للدلالة على العلاقة المتشابكة بين أحكام العبادة وفقه السياسة، في قوله تعالى: “وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ، وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ، وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ، وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ.” (الشورى: 38).

3-ضمان حقوق الإنسان والمواطنة الكاملة في الإسلام: وهي من الحقوق الطبيعية التي كرّسها الدستور التاريخي للمدينة المنوّرة (مفخرة الدولة والحضارة الإسلامية)، في ظلّ الدولة المدنية الوليدة. يقول المستشرق الرّوماني جيورجيو: (حَوَى هذا الدستور: 52 بُندًا، كلّها من رأي رسول الله، 25 منها خاصةٌ بأمور المسلمين، و27 مرتبطةٌ بالعلاقة بين المسلمين وأصحاب الأديان الأخرى، ولاسيما اليهود وعبدة الأوثان، وقد دُوِّن هذا الدستور بشكلٍ يسمح لأصحاب الأديان الأخرى بالعيش مع المسلمين بحرِّية، ولهم أنْ يقيموا شعائرهم حسب رغبتهم، ومن غير أنْ يتضايق أحدُ الفرقاء..).

وقد أصبحت المدينة المنوّرة وِحدةً ترابيةً تجعل البُعد الجغرافي الذي يجمع بين شركاء الوطن الواحد معيارًا في التمتّع بحقوق المواطنة الكاملة، فيقول أبو بكر رضي الله عنه عند تولّيه الخلافة: “القويّ عندكم ضعيفٌ عندي حتى آخذ الحق منه، والضّعيف عندكم قويٌّ عندي حتى آخذ الحق له..”، بدون تمييزٍ على أساسِ العِرْق أو الجنس أو اللّون أو الدّين.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!