الرأي

بين الكذب والتكذيب!

ح.م

ينقسم الجزائريون إلى طائفتين كبيرتين في التعامل مع الأرقام التي تتفضل بها وزارة الصحة يوميا، عن فيروس كورونا، الذي حوّل حياة البشرية إلى جحيم، وأخلط أوراق منظمة الصحة العالمية التي صارت تُصبح على معلومة، وتُمسي على نقيضها، ما بين مُشكّكٍ في الأرقام، ويراها دون الحقيقة، ويضربها في عشرة أحيانا، مسايرا تيار التهويل الذي صار يحسب كل من سلّم روحه لبارئها بضحية الفيروس القاتل، وما بين من لا يعترف بالفيروس أصلا ويرى بأن أرقام الموت من نسج الخيال، مسايرا تيار التهوين ومستندا على تغريدات غريبة ترى بأن المؤامرة الكبرى قد نجحت في حرمان الناس من الحجّ والصلاة والفرح والعلم والعمل ومعايدة الأهل والمرضى، ويتفق الطرفان على تكذيب أي رقم يأتيهم، من نافلة أنهم اعتادوا على مدار عقود، أن لا يصدّقوا ما يأتيهم من القمة، حتى ولو آمنوا في قرارة أنفسهم بأنه حقيقة.

كل بلدان العالم ذاقت من كأس الفيروس الغريب، الذي شلّ حركتهم، وجميعها من دون استثناء، عاشت جدل تكذيب ما يصلها من أرقام، وجميع وزارات الصحة اعترفت بصعوبة الإحصاء، وحتى بلاد الصين التي تجرّعت الموت في نهاية السنة الماضية، عادت لتصحّح أرقامه بإضافة مئات الهالكين، بعد قرابة نصف عام من الوباء، كما يشكك الفرنسيون والإيطاليون إلى حد الآن في الأرقام، ويختلفون بين من يراها مبالغا فيها، ومن يراها دون الحقيقة المفجعة، ولكنهم جميعا تجاوزوا هذا الخلاف الذي أنساهم

الوباءَ بعض الوقت، وعادوا إلى مقاومته بالطرق الكلاسيكية السهلة التي تعتمد على التباعد الاجتماعي ووضع الكمامات، ولم تمرّ سوى أسابيع حتى تعافت أوروبا، ونراها الآن تلعب الكرة، ونحن نتفرج، وعلماؤها يبحثون عن علاج أو لقاح ونحن ننتظر، بل إن بعضنا مازال يصوِّب أرقام الموت بإضافة صفر على اليمين، أو حذف الصفر من عدد الإصابات والمجادلة إن كان الفيروس حقيقة أم خيالا.

للأسف زادت أرقام المصابين بعدوى المرض في الأيام الأخيرة، وصار من الضروري نسيان كل الخلافات والبقاء كمنتقدين خلف اللوحات الإلكترونية، لأننا لسنا بصدد انتقاد سياسة حزب أو برنامج حكومة، وإنما تعطيل مهمة حاسمة بجدل عقيم، يهدّد بجرّ البلاد إلى خطر الوقوع في فخ الوباء، في الوقت الذي من المفروض أن نكون قد تغلّبنا عليه، خاصة أن تحقيق ذلك لا يتطلب، لا مالا ولا ذكاءً ولا حيلة، فقط الالتزام بأبسط قواعد التباعد الاجتماعي والنظافة.

لا نفهم لماذا يصرّ بعض الناس على تكذيب أي رقم يأتيهم من وزارة الصحة ويستصغرون ما يبذله الطاقمُ الطبي من جهد في عز فصل الحر؟ ولا نفهم لماذا يصرّ بعض الناس على أن يرتدوا البدلة البيضاء بدلا عن الطاقم الطبي، فيُشرّحون الجثث، ويُشخِّصون المرض، وما أتاهم الله من سلطان علم ولا طب؟

نشعر الآن بعد أن ذقنا من كأس الوباء، بأن الجزائر ليست في حاجة إلى ترميم اقتصادها أو سياحتها أو نسيجها الاجتماعي والسياسي، بقدر ما هي في حاجة إلى ترميم جسور الثقة بين المواطنين والمسؤولين، وبين الفرد وذاته، فمرض التكذيب المزمن أخطر من الكذب نفسه.

مقالات ذات صلة