الرأي

تخلف الغرب!!

التهامي مجوري
  • 1511
  • 6

العنوان صادم أليس كذلك؟

ولكنه يصلح موضوعا للكلام فيه؛ بل يوجد الكثير من المبررات لذلك.

وربما جال بخاطر غيري أن العنوان ليس صادما، وإنما ربما صاحب المقال لا يعرف الغرب، ولا يعترف بالفضائل التي تكرم بها الغرب على العالم!! وهذا محتمل أيضا وبفتح لنا بابا آخر للكشف عن عقليات منبهرة وأخرى جاحدة…

ومهما يكون من الأمر، سواء كاذ ذلك صحيحا أو غير صحيح، في قليل أو كثير، في هذا الاتجاه أو ذاك، فإن من حق كل أحد أن يقول ما يعتقد؟

أليس من حق الكاتب أن يلقي بحجر في الماء الراكد، لكسر بعض القوالب المحنطة لعشرات السنين؟ فيحدث بذلك حركة في الماء الراكد المملوء بالطحالب والغثاء الذي حملته إليه السيول منذ عشرات السنين!!

شيء لم نعهده، ولكن من حقنا أن نجرب ما لا نعهد من الأمور؟ ألا يحق للكاتب أن يكون له رأي في واقع أعجبه أو لم يعجبه؟

إن من أسباب الجمود واستشراء الخرافة على حساب الحقائق العلمية والعملية والشرعية، ركود العقل وتحاشي السؤال المفضي إلى الخوف من الإجابة… خوف يحمل في طياته التهرب من المسؤولية، والخوف من القيل والقال، بسبب غياب الوعي وضعفه في أحسن الأحوال.

ففي القرنين الماضيين تربع الغرب على عرش قيادة العالم والتحكم فيه وتسييره وتوجيهه، بعد ثلاثة قرون من التنظير والجدل والحروب الطاحنة، بحيث سمى نفسه في النهاية هو المركز، وسمى غيره من الثقافات والحضارات الأطراف، وعاشت الإنسانية كلها، بموجب ذلك تحت سيطرة هذا الغرب المتغول، وعلى مر أيام وشهور هذين القرنين، بدت مركزية الغرب وكأنها قدر الإنسانية الذي لا راد له، كثابت من الثوابت الغير قابلة للزعزعة…، وقد عبر عن هذا التوجه فوكوياما بكتابه “نهاية التاريخ”، حيث اعتبر أن اللبيرالية والتجربة الأمريكية تحديدا قد حققت كل ما يمكن ان يفكر فيه الإنسان، ودخل الجميع الصف راضين ومكرهين، محدثين أنفسهم بعدم جدوى مقاومة هذا الواقع المتسلط والمتعجرف، بحيث لا يلمس في البشرية وجود من يجرؤ على القول بأن الغرب المتخلف مثلا!! بسبب القوة التي يتمتع بها والرفاه الذي وصل إليه هذا الغرب/

فلننتظر ربما نكتشف حقيقة أن الغرب يمتلك سيادة مستحقة لا يحق لأحد منازعته فيهاK أو لأنه فقد مبررات استمراره ومن ثم فهو قابل للسقوط!! وما دام قابلا للسقوط فقد ينسحب عليه مفهوم التخلف، ولكن جهلنا بتفاصيل مهمة في الموضوع يجعلنا نعتقده متقدما، ناسين أن التقدم لا يكون ذاتيا دائما وإنما ربما يستمد قوته من تخلف الآخرين وليس تقدما حقيقيا، فيكون واقعه كالأعمش في بلاد العميان، وكما يقال في المثل الشعبي الجزائري “العمشة في بلاد العميان مكحولة لنظار”.

في الحوار الذي أجراه علي الظفيري في برنامج “المقابلة” الذي بثته الجزيرة يوم السبت-11 ديسمبر2021- قال ضيف المقابلة البروقسور وائل حلاق، الكندي الجنسية، ذي الأصل الفلسطيني، النصراني الديانة، “إن الحداثة في مأزق حقيقي”، بسبب الإغراق في المادية واستبعاد الأخلاق من جميع مناحي الحياة، “الرأسمالية واقفة على رجلين إثنين فقط هما: المادة والسياسية”، أما المادة فمتمثلة في منهجية الربح بكل الوسائل وجميع المبررات، وأما السياسة فتشمل كل المؤسسات المشرفة على إدارة المادة، وما عدا ذلك فلا قيمة له، ولذلك نرى أن الطبيعة أُفسدت والعلاقات الإجتماعية تمزقت، واستشرت في أطرافها جميع المفاسد والموبقات، وانتشر الاستبداد والمظالم…إلخ، وكذلك إفساد البيئة بسبب السموم التي تبثها الشركات العملاقة، حتى أنه قال “أفضل أن أكون مواطنا في الدولة العباسية، على أن أكون مواطنا في إسرائيل” وقال في لقاء آخر “أفضل أن أكون مواطنا ذميا في دولة بني امية على أن أكون في نظام حداثي معاصر”.

وهذا الكلام  ليس لرجل عادي يطلق الكلام على عواهنه، وإنما هو كلام لرجل جامعي أكاديمي متمرس يدرِّس بأكبر جامعات العالم الأمريكية والكندية، وبجرأة قوية وجادة، والعجيب في كلام الدكتور وائل حلاق أنه يصدر عن رجل نصراني الديانة، ويسلم على يديه الكثير من الطلاب في أمريكا، فيعتنقون الإسلام بفضل طروحاته المنصفة للمنظومة الإسلامية في جانبيها المعرفي والقيمي. وقد أصبح مرجعا بديلا للطروحات الاستشراقية التي تعرض الإسلام بمنظورات جديدة أخرى، غير الصورة التي يعرضها المستشرقون التقليديون،  ولا تعبر عن مضامينه الحقيقية.

صحيح أن المعايير الدولية في قياس التقدم والتخلف، مبناها على المكاسب المادية، على قوة الإقتصاد، وعلى مستوى الدخل القومي، وعلى إنجاز الطرقات، وعلى حجم الصادرات في مقابل الواردات والتكنولوجيا…إلخ، ومن ثم تكون صناعة الصواريخ والأسلحة المتطورة، وتطور التقنيات الاتصال المتحكمة في مصير الإنسان، عبر التجسس عليه، وملازمته كالظل، وهو يعتاد المواقع والوسائط الإلكترونية المتنوعة، كل ذلك تقدما.

ولكن في حقيقة الأمر، هل التقدم يقف عند هذا الحد؟ أم أن هناك معايير أخرى غفل عنها الغرب بانشغاله باللعب والملاهي والاستغناء بالجانب المادي، واستثمار ذلك في دراسة الغرب لحال البشرية، عبر متابعة المواقع وجميع وسائل التواصل المتاحة مجانا لكل الناس، كمخابر تجارب، مثل التجارب التي يجريها خبراء البيولوجيا على الفئران البيضاء، والتجارب النفسية التي أجريت على كلب بافلوف…

إن الغرب بحكم تحديد بوصلته بالغاية الأعلى والأسمى “المال”، قد حسم في الموضوع، بهذا الشكل ولا يمكن أن يتراجع لغيره من التوجهات، إلا تحت طائلة الثورة التي تقبل كيان الفكر الإنسان، وما ذلك على الله بعزيز.

هناك أمور أخرى غفل عنها الغرب، وهي الأمور الأخلاقية، وليته اهتم بالمادة على حساب الأخلاق فحسب، لكان الأمر أهون إذن…، ولكن المصيبة أن تكون المادة هي المرجع في تأطير الأخلاق والقيم الروحية الإنسانية، التي توارثها الإنسان عبر الزمن، بحيث تكون المادة والمصالح الأقتصادية هي الحاكمة والقاضية في حق الأخلاق، ما قبلته المادة مقبول وما رفضته مقبور!!

تلك هي الملاحظة الأساسية والمأزق الذي أراد وائل حلاق لفت انتباه البشرية إليه؛ بل اعتبر بأن الغرب متخلف لهذه الأسباب.

فالدولة في الغرب اليوم تحرس المال…، وليس المواطن؛ لأن مستوى المواطن فيها يقدر بقدر ما يدفع، والذي يدفع اكثر إنسانيته أكبر وأعظم من إنسانية الذي يدفع أقل وذلك ممارس في الواقع، والذيمن يدفعون أكثر هم أرباب الشركات العملاقة والقزمة على حد سواء؛ لأنهم هم الذين يدفعون الضرائب أكثر، فلهم حق الامتياز على غيرهم، لأن الرب المعبود في تلك البقاع هو الدولار وكما قال الرسول صلى الله عليه وسلم “تعِس عبدُ الدينارِ، تعِس عبدُ الدرهمِ، تعس عبدُ الخميصةِ، تعس عبدُ الخميلةِ، تعِس وانتكَس وإذا شيكَ فلا انتقشَ” (رواه البخاري عن أبي هريرة).

فقيمة الإنسان إذن تحددها مكانته المالية في المجتمع، والثابت والمسلم به في المجتمعات –عبر القرون- ،أن المعرفة هي الأقوى والأعلى في السلم القيمي الإجتماعي، ولكن الغرب بفلسلفته يوحي بأن المعرفة التي لا تنتج مالا لا قيمة لها؛ بل هي خاضعة للكسب المالي، ولعل توجيه جميع العلوم وجعلها خاضعة لقرار السوق وحاجياته، اكبر دليل على خضوع المعرفة لسلطة المال وليس العكس، وأظهر ما تكون المعرفة في خدمة المال، في الذكاء الإصطناعي، الذي يلهث وراء تجسيد الإنسان الآلي الذي سيعوض الإنسان، فينتج ويفكر ويحس ويتكلم وينفذ الأوامر، لتستغني البشرية عن بعضها البعض، بحيث يمكن للمرء أن ينشئ مصنعا لا يحتاج فيه إلى أحد، لأن جميع المستخدمين “ربوات”، بل ربما تحدث الناس فيما يأتي من العقود، عن إمكانية التزاوج ما بين الآدميين والربوات… ما دام السحاق واللواط شرع لهما في بعض البلاد الغربية، وما دامت المادة والشهوة واللذة هي المقياس في الأشياء كلها، فيمكن توفيرها بفضل الذكاء الاصطناعي.

إن الولايات المتحدة الأمريكية، الدولة العظمى والأكثر انفتاحا على باقي الشعوب، لا تريد أن تعرف من الإنسان –أي إنسان- أكثر من موقفه من الرأسمالية، وهل ينتمي إلى تيار آخر غير الرأسمالي، أي التيار الإشتراكي مثلا أو شيوعي؟

لأن الرأسمالية هي أفضل ما توصلت إليه الإنسانية في الغرب اللبيرالي، ومن ثم فإن أي توجه يحمل من المعتقدات ما يضاد الرأسمالية، يعد تهديدا للرأسمالية ومستقبلها في العالم…، وهذا هو التخلف بعينه؛ لأن الفكرة الصحيحة تحمل في طياتها بذور الدفاع عنها، أو قل هي خلايا المناعة فيها. ولو كان الغرب متقدما فعلا لما خاف على مصيره ما دام يعتقد أنه على علم، ولكن لما كان متخلفا بسبب ما فقد من القيم الإنسانية في ثقافتها…، أضحى يخاف من أي توجه يؤثر على هذا العلم الذي يتبناه.

مقالات ذات صلة