-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

تَبَرْبُر وتَيَامُن

تَبَرْبُر وتَيَامُن

من أهم ما تميزت وامتازت به الجزائر في سبعينات القرن الماضي وثمانينياته ذلك الملتقى الهام، “ملتقى الفكر الإسلامي”.

لقد كان ذلك الملتقى محط اهتمام العلماء والمفكرين المسلمين وغير المسلمين، وكان كثير منهم يحرصون أشد الحرص على حضوره، فيطلبون دعوتهم إليه ولو على حسابهم، لما يجدون في موضوعاته من جدة وجدية .

ومما كان يعطيه قيمة أن سقف الحرية فيه مرتفع، وما سمعنا ولا علمنا أن أحدا اشتكى من تقييد حريته في طرح آرائه، أو الجدال عنها، أو انتقاد آراء غيره..

بل إن بعضهم اندهش من اتساع هذه الحرية، ومن ذلك أن الدكتور عبد الصبور مرزوق، رئيس المجلس الأعلى للشون الإسلامية في مصر، حدثني باستغراب وإعجاب من كلمة وزير الشؤون الدينية، الأستاذ عبد الباقي بوعلام ـ شفاه الله وأطال عمره ـ التي خاطب فيها الشبان في ملتقى تبسة (1989)، وجاء فيها: أيها الشبان، أتى أمر الله فلا تستعجلوه فقال لي: هل يعقل أن يقول وزيرٌ هذا الكلام لشبان يصنفون في صف المعارضين لحكومته؟

لقد حاولت بعض الدول أن تنسج على منوال ذلك الملتقى فما أفلحت، لأنها جعلته وسيلة دعائية لها؛ وليس مجالا لطرح قضايا المسلمين ومناقشتها، ومحاولة إيجاد حل لها.

وميزة أخرى كان يمتاز بها ذلك الملتقى، وهي تمكين الشبان من الإناث والذكران من التقرب من العلماء، والاستفادة من معارفهم الغزيرة وتجاربهم الكثيرة، حيث كان أولئك يزورون الطلبة والطالبات في أماكن إقامتهم، فيطرح الشبان ما يشغل عقولهم وما يضطرهم في صدورهم من أفكار والتباسات، حيث كان الصراع الفكري على أشده.. ولجدية هذه اللقاءات في قاعة المحاضرات أو في الإقامات، قال الأستاذ الشاعر محمد الأخضر السائحي، في إحدى قصائده التي كان يعدها لتلك الملتقيات:

مهمة العلم هنا الهداية …. لا السرد في العرض ولا الرواية

ولا تحيات ولا أشعار …. ينشدها “الأخضر(*)” أو “شقار(**)

ولا يهم لقب أو اسم…. وإنما الفعل هو المهم

لم تكن الملتقيات كلها جدا كما أشار شيخنا السائحي في قوله:

ستون جلسة على المنصة…. لم نعط فيها راحة وفرصة

ولكن كان للترويح عن النفس مجال تخفيفا عنها من ذلك المجهود الفكري، فكان الملتقون ـ علماء وطلاب ـ يقومون بزيارات إلى المواقع التاريخية والمنشآت الصناعية، والأماكن السياحية، ويستغل أولئك العلماء والأساتذة ذلك في إطلاق النكت اللطيفة شعرا ونثرا، فيستفيد الشبان أن في ديننا فسحة كما جاء في حديث رسولنا الأكرم.

كان من حضور تلك الملتقيات عالمان جليلان، أحدهما جزائري، والآخر يمني، فأما الجزائري فهو الشيخ سليمان داود بن يوسف الميزابي، وأما اليمني فهو القاضي الشماحي، وكان أولهما يجتهد في أن يجد الأصول البربرية لكل شخصية هامة في التاريخ، وكان الثاني يؤكد الأصل اليمان لكل من يعد من الأعيان، وقد سجل ذلك شيخنا السائحي فقال:

وأترع(***) القلوب بالأفراح . .    بالشيخ “داود” وبـ”الشماحي”

شيخان قد تعاورا الشبابا        . .    ومارسا التاريخ حتى شابا

“فبَرْبَرَ” الأول كل العرب      . .    و”يَمَّنَ” الثاني جميع النسب

فحافظا الآن على التوازن        . .   بذا “التبربر” وذا “التيامن”

فسلام على تلك الأيام الزاهرة، التي عوضت بالمهرجانات الداعرة والتجمعات الفاجرة، وسلام على أولئك العلماء والأشياخ الأكابر، وسلام على من حضر لتلك الملتقيات ومن حضر ومن حاضر، وندعو الله القاهر أن يعيد تلك الأيام، لما قدمت من فكر قويم، وغرست من خلق كريم.

هوامش:

*)الأخضر هو الشاعر نفسه، محمد الأخضر السائحي. (ت2005)، والأبيات من ديوانه “إسلاميات”.

**)هو الشاعر أحمد شقار الثعالبي. (ت2013).

 

***) الضميرفي “أترع” يعود على الله ـ عز وجل ـ بحسب السياق.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!